ترامب يعيد تعريف حرّيّة التّعبير
بقلم موفق حرب
«أساس ميديا»
في أميركا اليوم، لم يعد الصراع على حرّية التعبير يُخاض فقط في قاعات المحاكم أو غرف الأخبار، بل أيضاً في مجالس إدارات الشركات. من سعي البنتاغون إلى فرض موافقات مسبقة على ما ينشره الصحافيون، إلى تعليق شبكة “ABC” مؤقّتاً لبرنامج جيمي كيميل بعد سخريته اللاذعة من الرئيس دونالد ترامب، ثمّ إعادته سريعاً إلى الشاشة بعد موجة غضب شعبيّ، وصولاً إلى تسوية شركة “باراماونت” المالكة لشبكة “CBS” بدفع 16 مليون دولار لترامب في قضيّة تتعلّق ببرنامج 60 دقيقة، تتكشّف جبهة جديدة للمعركة من أجل حرّيّة الإعلام: ما هو الخطّ الفاصل بين السلطة السياسيّة والمصالح التجاريّة والضغوط الشعبيّة؟
على الرغم من تباين هذه الحوادث، تكشف عن واقع مستجدّ: حرّيّة الإعلام تُعاد صياغتها اليوم، ليس فقط عبر القوانين والمبادئ، بل أيضاً عبر مصالح الشركات وضمان حقوق المستثمرين فيها. والنتيجة أنّ التعديل الأوّل للدستور الأميركي، الذي ضمِن حرّية التعبير لعقود، يواجه اختباراً جديداً في عصر يمكن فيه لدعوى قضائيّة واحدة أو حملة مقاطعة إعلانيّة أن تُسكت أو تحدّ من نفوذ أصوات ناقدة.
حساسيّة واضحة
لطالما لعبت البرامج الكوميديّة الليليّة دوراً محوريّاً في تشكيل الرأي العامّ. فهي ليست ترفيهاً وحسب، بل منصّات تلتقي فيها السياسة بالسخرية، ويُسلَّط فيها الضوء على القادة بالنقد والتهكّم، فتجعلهم أكثر قرباً من الجمهور وأكثر خضوعاً للمساءلة. حتّى إنّ المرشّحين الرئاسيّين يسعون إلى الظهور ضمن هذه البرامج حيث سيساهم أداؤهم الجيّد فيها برفع رصيدهم الشعبي.
خلال العقد الماضي، تحوّل مقدّمو هذه البرامج مثل جيمي كيميل وستيفن كولبير وجون ستيوارت إلى معلّقين سياسيّين مؤثّرين، تصل آراؤهم إلى ملايين المشاهدين، ولا سيما الشباب الذين يتلقّون أخبارهم عبر الكوميديا الساخرة.
أمّا ترامب فقد أبدى مراراً انزعاجه من هذه البرامج، متّهماً إيّاها بالتحيّز والعداء، فيما أظهرت إدارته حساسيّة واضحة تجاه قدرتها على تشكيل الرواية السياسيّة. وقد جسّد تعليق برنامج كيميل هذا التوتّر، إذ كشف كيف يمكن لحذر الشركات أن يدفعها إلى التراجع أمام الضغط السياسيّ واحتمال المقاضاة. وعلى الرغم من إعادة البرنامج بعد أسبوع، سلّطت الحادثة الضوء على هشاشة مساحة النقد الساخر في المشهد الإعلامي، خصوصاً أنّ الرئيس ترامب هدّد الشبكة بأن يكون لقرارها تبعات سيّئة.
ليست حالة المقدِّم كيميل فريدة من نوعها. فالتسوية التي أبرمتها باراماونت مع ترامب في قضيّة 60 دقيقة تُظهر كيف يمكن أن تتقاطع الضغوط القانونيّة مع الاستراتيجيات التجاريّة. فعلى الرغم من تشكُّك خبراء القانون في قوّة الدعوى استناداً إلى سوابق التعديل الأوّل للدستور، واجهت الشركة مخاطر كبيرة: تكاليف تقاضٍ باهظة، واحتمال تدقيق من لجنة الاتّصالات الفدرالية (FCC)، وتأثيراً سلبيّاً على صفقة اندماج بمليارات الدولارات.
على الرغم من أنّ CBS لم تعترف بأيّ خطأ، وجّه قرار التسوية رسالة واضحة: حتّى المؤسّسات الكبرى تفضّل تقليل المخاطر على خوض معركة مبدئيّة. ليست النتيجة رقابة مباشرة، بل تأثير مُجمِّد يدفع المسؤولين التنفيذيّين إلى الرقابة الذاتيّة خوفاً من الخسائر.
في واشنطن، أضافت وزارة الدفاع طبقة جديدة إلى هذا المشهد عبر سياسة إعلاميّة تُلزم الصحافيّين المعتمَدين بطلب موافقة مسبقة على الموادّ المنشورة من داخل مبنى البنتاغون، مع التهديد بسحب الاعتماد عند المخالفة. وتؤكّد الوزارة أنّ الهدف هو حماية الأمن العمليّاتيّ.
تآكل حرّيّة الصّحافة
لكنّ المنتقدين يرون في ذلك شكلاً من الرقابة المسبقة، إذ قد تُمنع معلومات غير سرّيّة من النشر لغياب الموافقة الرسمية فقط. ويخشى الصحافيون من أن يؤدّي الخوف من فقدان الوصول إلى أحد أهمّ مصادر الأخبار إلى الحدّ من التقارير الجريئة، خصوصاً في المؤسّسات الإعلامية التي تضع في الحسبان مصالحها التجارية الطويلة الأمد.
عرفت الولايات المتّحدة محطّات كثيرة تداخل فيها الأمن والاقتصاد وحرّية التعبير. ففي الحرب العالمية الثانية، التزمت الصحف طوعاً عدم نشر تفاصيل حسّاسة. وفي عام 1971، أكّدت المحكمة العليا في قضيّة أوراق البنتاغون حقّ الصحف في نشر وثائق مسرّبة على الرغم من اعتراض الحكومة. أمّا في حرب العراق، فقد سمحت برامج الصحافيّين المدموجين والمسموح لهم بدخول ساحات القتال ضمن شروط صارمة.
أمّا اليوم فالتحدّيات تختلف لأنّها لا تأتي من رقابة حكوميّة مباشرة، بل من الهشاشة الاقتصادية والنفوذ السياسي. ففي سوق منقسمة، قد تكفي دعوى قضائيّة واحدة أو تهديد تنظيمي أو مقاطعة إعلانيّة لتغيير حسابات أيّ شركة إعلامية.
يقول مؤيّدو هذه السياسات إنّها ضروريّة لحماية الأمن القومي واستقرار الشركات، إذ تتحرّك الحروب والمعلومات بسرعة رقميّة تجعل أيّ خطأ مكلفاً، بينما على المؤسّسات واجب حماية مساهميها من التعرّض لمخاطر قانونيّة غير ضروريّة.
لكنّ المعارضين يرون أنّ هذه “الاحتياطات” تمثّل تآكلاً بطيئاً لحرّية الصحافة. فعندما يُكبّل التحقيق أو السخرية السياسية أو التغطية المستقلّة بدافع الخوف الماليّ، تفقد الديمقراطية عيونها الساهرة. فالتعديل الأوّل للدستور يحمي من رقابة الدولة، لكنّه لا يُجبر الشركات الخاصّة على تحمّل كلفة الدفاع عن حرّية التعبير.
أظهرت إعادة برنامج كيميل أنّ ردّ الفعل الشعبي لا يزال مؤثّراً. فعندما يتحرّك الجمهور دفاعاً عن حرّية التعبير، يمكنه تصحيح المسار، خصوصاً أنّ الشركات لا تريد أن تكون عرضة للمقاطعة وتراجع نسب المشاهدة اللذين يحرمانها إيرادات إعلانيّة. لكنّ الأمر يتطلّب يقظة مستمرّة لضمان ألّا تعيد السياسة أو المصالح التجارية رسم حدود حرّية التعبير بهدوء وخفاء.
موفق حرب
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.