ترامب يفوز بجائزة غزّة

4

بقلم أمين قمورية

«أساس ميديا»

حقّق الرئيس الأميركي دونالد ترامب ما عجز عنه الآخرون. أوقف الحرب وعدّاد الموت والدمار في غزّة. أعادت مبادرته لإسرائيل محتجَزيها. وحالت دون تهجير  أهل القطاع إلى وطن بديل. الأهمّ أنّ هذه الخطّة في حال الالتزام بها من شأنها أن تعكس تحوّلاً في المقاربة الأميركيّة للصراع الفلسطينيّ – الإسرائيليّ، من سياسة الانحياز الكامل للمحتلّ والتعامي عن ارتكاباته مهما كانت فظيعة، إلى نهج إدارة الصراع وفرض التسويات.

يشي نجاح المبادرة بأنّ الكلمة الفصل في العلاقات الأميركيّة الإسرائيليّة هي لواشنطن وليست لتل أبيب، وأنّ المصلحة الأميركيّة العليا هي التي تغلب في النهاية أيّاً كانت مكانة إسرائيل في عمق العقل والقلب الأميركيَّين. واشنطن إذا قرّرت فعلت. لم تعُد الحرب جولة عسكريّة إسرائيليّة وحسب، بل صارت أزمة استراتيجيّة تهدّد نفوذ الولايات المتّحدة ومصالحها في الشرق الأوسط، أكثر المناطق خطورة في لعبة الشطرنج الأمميّة الكبرى.

أُطلقت يد إسرائيل للانتقام الدمويّ واستعادة هيبتها التي مُسّت في الصميم في “طوفان الأقصى”، لكن بعد سنتين من حملات الإبادة الجماعية بالسلاح الأميركيّ عجزت عن تحقيق نصر عسكريّ واضح، وتآكلت صورة جيشها وتشوّهت سمعتها، ومعها سمعة أميركا التي وجدت نفسها يتيمة في حمايتها. ولم يعُد أمام واشنطن سوى نقل الصراع من الميدان إلى الطاولة السياسية، بما يتيح لها إعادة توجيه مخرجات الحرب وفق ما يخدم مصالحها.

استعادة دورها كوسيط مقبول

باتت تل أبيب في حاجة إلى مخرج سياسيّ يغطّيها دوليّاً، ويريد ترامب استعادة زمام المبادرة الشرق الأوسطيّة، ويرغب في تكريس صورته كرجل صفقات قادر على إحلال السلام ووقف الحروب أيّاً كانت صعوبتها، وإعادة المحتجَزين والأسرى إلى بيوتهم وعائلاتهم. واللحظة مناسبة للدفع نحو وقف النار وفرضه:

  • فلسطينيّاً، في ظلّ النكبة غير المسبوقة وفاتورة الدم الباهظة وتوسّع الانقسام الداخليّ بين السلطة و”حماس”، والضفّة والقطاع.
  • إسرائيليّاً، في ظلّ تنامي سوء السمعة والعزلة الدوليّة والملاحقة الجنائيّة والتخبّط السياسيّ والفشل في تحقيق النصر الشامل وضبط الشارع وأهالي المحتجَزين.
  • عربيّاً، في ظلّ رفع التحدّي في وجه واشنطن بالإصرار السعوديّ على حلّ الدولتين قبل أيّ تطبيع جديد، ونزوع الدول العربية الكبرى، لا سيما مصر والمملكة، نحو تنويع التحالفات الدوليّة وصوغ تحالفات إقليميّة مغايرة لما سبق، والبحث عن مظلّات أمنيّة ذاتيّة أو خارج النطاق الأميركيّ والغربيّ، وتعزيز آليّات الدفاع العربي المشترك، وتراجع موجة “اتّفاقات أبراهام” بعد اصطدامها بالأسلاك الشائكة للجرائم الإسرائيليّة التي بلغت قطر في قلب الخليج مؤدّيةً إلى “توحّيد الصوت الخليجيّ” وإحداث تأثير دفع مستشاري ترامب إلى تجديد الضغط لإطلاق مفاوضات غزّة.
  • دوليّاً، في ظلّ التعبئة التراكميّة للرأي العامّ ضدّ الحرب والممارسات الإسرائيليّة اللاإنسانيّة التي دفعت بالحكومات الغربيّة إلى انتهاج سياسات غير اعتياديّة في مواجهة تل أبيب بلغت ذروتها في التهافت الاستثنائيّ على الاعتراف بالدولة الفلسطينيّة.
  • أميركا نفسها بدأت تواجه إحراجاً غير مسبوق، على مستوى الشرعيّة الأخلاقيّة بسبب دعمها للحرب التي تحوّلت إلى جريمة إبادة ممنهجة، وعلى مستوى التحوّلات في النظام الدوليّ، حيث صارت حرب غزّة ساحة اختبار لإرادة القوى الكبرى، وسلاحاً سياسيّاً في أيدي روسيا والصين وإيران لمواجهة التفرّد الأميركيّ في قيادة العالم. لذا كان لا بدّ من إعادة دورها كوسيط مقبول عبر مبادرة سياسيّة تضفي عليها صورة “المخلّص” وتبنّي خطاب إنسانيّ يعمل على إنهاء معاناة غزّة وإرضاء الدول العربية بوقف الحرب ومنع التهجير، وإغراء مصر بدور أساسيّ في إدارة “منطقة الإيواء الآمنة” جنوبي القطاع، والسعوديّة برعاية إعادة الإعمار. لكنّ الإغراء الأخير يبقى بلا جدوى مع إصرار الرياض على ربط أيّ خطوة لها بإنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينيّة ذات سيادة.

بالفعل جاءت بعض القرارات الأميركيّة غير متوقّعة بالنسبة إلى إسرائيل، إذ فرضت واشنطن مشاركة عربيّة وإسلامية في المفاوضات النهائيّة، على عكس رغبة بنيامين نتنياهو الذي بدأ المقرّبون منه بالتباكي على عهد الرئيس السابق جو بايدن.

زيادة الضّغط على ترامب؟

لم يقف الحرج الإسرائيليّ لأميركا عند حدود المحافل الدوليّة، حيث تجد واشنطن نفسها يتيمة في مواجهة موجات الإدانات المتكرّرة لإسرائيل في مجلس الأمن والجمعيّة العموميّة ومحكمة العدل والمحكمة الجنائيّة وغيرها، بل في داخل المجتمع الأميركيّ نفسه، حيث يشهد الرأي العامّ الأميركيّ تحوّلاً ملحوظاً ضدّ إسرائيل، حتّى داخل أوساط قاعدته الصلبة في حركة “ماغا”، مع تنامي الشكوك بين رموز الحركة في مدى التزامه شعار “أميركا أوّلاً” مقابل ما يرونه انحيازاً إلى شعار “إسرائيل أوّلاً”. ويزداد الإحباط داخل الدائرة المقرّبة من ترامب من تدخّل نتنياهو في السياسة الداخليّة الأميركيّة، بعد لقائه عدداً من المؤثّرين الأميركيّين المحافظين على وسائل التواصل الاجتماعي، وطلب منهم دعمه في “القتال” عبر الإنترنت لمصلحة إسرائيل. وكانت مسألة العلاقة بين أميركا وإسرائيل عنصراً رئيساً في الجدل الدائر في قضيّة اغتيال الناشط المحافظ تشارلي كيرك التي هزّت الولايات المتّحدة.

لم تؤدِّ تلك التغيّرات في صفوف مؤيّدي ترامب إلى تغيير جذريّ في موقف الرئيس الشخصيّ الداعم لإسرائيل، لكنّها زادت الضغط عليه للحديث علناً عن عدم تأييده لخطوات يتّخذها نتنياهو. وعبّر بوضوح عن قناعته بأنّ إسرائيل تخسر معركة الرأي العامّ العالميّ، وأعرب عن استغرابه تضاؤل دعم إسرائيل في صفوف الكونغرس أيضاً، حيث كان الدعم لها قويّاً دائماً عبر التاريخ الحديث.

علاوة على ذلك، لا يخفي ساكن البيت الأبيض يعتقد أنّ نجاحه في إنهاء حرب غزّة من شأنه أن يمهّد الطريق لتوسيع اتّفاقات أبراهام التي أطلقها خلال ولايته الأولى (2017–2021) بين إسرائيل وعدد من الدول العربية والإسلامية.

لكن إذا كان ترامب أظهر قوّة تأثيره وتأثير أميركا على إسرائيل، اختار نتنياهو تجنّب المواجهة المباشرة مع الرئيس، ونجح في تفريغ الخطّة الأميركيّة من الضمانات وحرفها عبر إدخال تغييرات جوهريّة عليها يحاول من ورائها إبقاء سيطرته الأمنيّة على القطاع.

في أيّ حال، تظلّ نهاية أو إنهاء الحرب ضرورة في سماء المعاناة الفلسطينيّة في قطاع غزّة. اعتُبرت حرب القطاع القفل والمفتاح لمسار الأحداث التي جرت على مدار سنتين في المنطقة. إنهاؤها بتسوية مؤشّر إلى أنّ التسويات ممكنة ليس في فلسطين فقط بل في المنطقة برمّتها، ومواصلتها بأشكال مختلفة تعني أنّ دوّامة الانهيار والاقتتال باقية وتتمدّد. الأرجح أنّ ترامب الذي وضع كلّ ثقله السياسيّ خلف إنهاء هذه الحرب لن يشجّع إسرائيل على حرب جديدة.

لكن نحن نعيش في الشرق الأوسط، المنطقة الواقعة فوق جبل من البارود، قد ينفجر في أيّ لحظة إذا لم يُبنَ السلام الشامل والعادل الذي يعطي لكلّ صاحب حقّ حقّه، لا سيما للشعب الفلسطينيّ الذي كوته العذابات واللعنات.

أمين قمورية

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.