تشرين 1956 – تشرين 2025: من السّويس إلى غزّة

2

بقلم محمد السماك
«أساس ميديا»
في مثل هذا الوقت من عام 1956 (24 تشرين الأوّل) كانت قناة السويس في مصر مسرحاً للحرب. اليوم المسرح هو في غزّة. كان يقف إلى جانب إسرائيل كلٌّ من فرنسا وبريطانيا (العدوان الثلاثيّ). أمّا الولايات المتّحدة فكانت، برئاسة الجنرال دوايت أيزنهاور، ضدّ الحرب. اليوم، وعلى النقيض من ذلك، تقف الولايات المتّحدة برئاسة الرئيس دونالد ترامب (وقبله الرئيس جو بايدن) إلى جانب إسرائيل سياسيّاً وعسكريّاً، بينما تتّخذ فرنسا وبريطانيا موقفاً محايداً ومرتبكاً.
لم يكن أيزنهاور ضدّ إسرائيل، بل كان متعاطفاً معها، وكان يُغدق عليها المساعدات العسكريّة والاقتصاديّة والماليّة، إلّا أنّه في الوقت ذاته كان يحرص على احتواء أيّ ردّ فعل من الاتّحاد السوفيتيّ السابق يمكن أن يجرّ الكرملين إلى التدخّل العسكريّ المباشر في الشرق الأوسط.
في تلك الفترة اجتاح الاتّحاد السوفيتيّ هنغاريا للقضاء على حركة تمرّد استقلاليّة. وكان العالم كلّه يعتبر أنّ الهجوم السوفيتيّ على هنغاريا، والهجوم الأنكلو–فرنسيّ–إسرائيليّ على مصر، يشكّلان تحدّياً وامتحاناً صعباً لجدّية اعتبار الحرب العالميّة الثانية آخر الحروب.
هيمنة أميركيّة مطلقة
اليوم تجتاح روسيا (خليفة الاتّحاد السوفيتيّ) أوكرانيا، في الوقت الذي تشنّ فيه إسرائيل حرب إبادة في غزّة. غير أنّ الموقف الأميركيّ الحاليّ من الأمرين (غزّة وأوكرانيا) معاكس للموقف السابق الذي اتّخذه الجنرال أيزنهاور عندما وقف ضدّ الحرب البريطانيّة – الفرنسيّة – الإسرائيليّة.
في عام 1956 كان على رأس الدولة الأميركيّة رئيس جمهوريّ (أيزنهاور)، كما هو الأمر في الوقت الحالي (ترامب). وفي ذلك الوقت أيضاً كان هناك تحالف ثلاثيّ إسرائيليّ – بريطانيّ – فرنسيّ، على خلاف اليوم، الذي تفرض فيه الثنائيّة الأميركيّة – الإسرائيليّة ذاتها في الشرق الأوسط بقوّة السلاح. أمّا بريطانيا وفرنسا (وكذلك ألمانيا وإيطاليا) فتحوّلتا إلى دول هامشيّة في الصراع، كما أكّدت ذلك قمّة شرم الشيخ الأخيرة.
استطاع التحالف الأوروبيّ (فرنسا وبريطانيا) مع إسرائيل أن يغزو قناة السويس وأن يمكّن إسرائيل من اجتياح صحراء سيناء، لكنّ الموقف المبدئيّ الأميركيّ الذي اتّخذه الجنرال أيزنهاور حمل الدول الثلاث على الانسحاب بقرار من الأمم المتّحدة. ومع ذلك استطاع أيزنهاور أن يربح معركة تجديد ولايته الرئاسيّة دورة ثانية.
انتهت حرب السويس بسقوط “الإمبراطوريّتين” البريطانيّة والفرنسيّة، وبهيمنة أميركيّة شبه مطلقة ليس فقط على الشرق الأوسط، إنّما على أوروبا أيضاً. أمّا إسرائيل فكما كانت تشنّ حروباً توسّعيّة بحجّة الدفاع عن أمنها الذاتيّ، تواصل شنّ هذه الحروب في غزّة والضفّة وسوريا ولبنان وحتّى إيران، متذرّعة بالحجّة ذاتها. ففي الاستراتيجية الإسرائيليّة أنّ الهجوم هو أفضل أنواع الدفاع، وأنّ التوسّع هو أفضل وسائل الاستقرار والاطمئنان. وبالتالي الإخضاع هو الطريق الوحيد للسلام. وتتمتّع هذه الاستراتيجية بغطاء أميركيّ على النحو الذي يبدو جليّاً من وقائع المنهج الذي يعتمده الرئيس دونالد ترامب.
إلى متى؟
في 29 آذار من عام 1956 وجّه الرئيس الأميركيّ الجنرال أيزنهاور رسالة إلى رئيس الحكومة البريطانيّ الأسبق ونستون تشرشل قال له فيها إنّ “الشرق الأوسط هو الأكثر أهميّة والأشدّ إزعاجاً من كلّ المشاكل التي تواجه أمننا”. وعندما أمّم الرئيس المصريّ الراحل جمال عبدالناصر قناة السويس تضاعفت هذه المشاعر، فانفجرت غضباً سياسيّاً بالهجوم الثلاثيّ البريطانيّ–الفرنسيّ–الإسرائيليّ على مصر من وراء ظهر الولايات المتّحدة.
اتّخذ الهجوم الثلاثيّ اسماً حركيّاً هو “عمليّة الفرسان الثلاثة”، بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، وأقرّ هؤلاء الفرسان بروتوكول التعاون العسكريّ في 24 تشرين الأوّل 1956. وبموجب هذا البروتوكول تقوم إسرائيل بغزو صحراء سيناء بعد خمسة أيّام من العمليّة العسكريّة الفرنسيّة–البريطانيّة في القناة، وقد حدث ذلك فعلاً في 29 تشرين الأوّل.
كانت هذه الخطّة تراعي أهميّة إبقاء الأمر سرّاً وإخفائه عن الولايات المتّحدة لحملها على قبول الأمر الواقع، وهو ما لم يقبله الجنرال أيزنهاور، فعمل على قلب الطاولة على القوى الثلاث، فارضاً أمراً واقعاً جديداً تحت عنوان “مبدأ أيزنهاور”، وهو المبدأ المستمرّ حتّى اليوم بمسمّيات أخرى.
في عام 2025 تحوّل المسرح إلى غزّة، وانقلبت أدوار اللاعبين رأساً على عقب. ولكن بقي أمر ثابت واحد، وهو استهداف العالم العربيّ وتناتشه وابتزاز خيراته…
محمد السماك

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.