حضور أحمد الشرع المرتقب للجمعية العامة للأمم المتحدة ودلالاته؟
بقلم د. ابراهيم العرب
تؤكد مصادر دبلوماسية وإعلامية أميركية أن الولايات المتحدة وافقت رسمياً على حضور الرئيس السوري الجديد، أحمد الشرع، اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة المقررة في نيويورك في سبتمبر/أيلول المقبل. وإذا ما تم ذلك، فسيشكل الحدث محطة تاريخية بكل المقاييس، إذ سيكون الشرع أول رئيس سوري يخاطب الجمعية العامة منذ خطاب الرئيس الراحل نور الدين الأتاسي في 18 حزيران/يونيو 1967، بعيد نكسة حزيران، حين خاطب العالم من على منبر الأمم المتحدة باسم سوريا والعالم العربي.
لكن دلالات هذا الحضور تتجاوز الرمزية التاريخية إلى تحولات استراتيجية أعمق، في لحظة إقليمية ودولية شديدة التعقيد، وسط حرب إبادة متواصلة تشنها إسرائيل على غزة منذ قرابة عامين، وصمت دولي مطبق، وشلل أممي غير مسبوق.
تحوّل في المقاربة الأميركية
ما يلفت النظر هو التبدل اللافت في الموقف الأميركي من دمشق. فالموافقة على حضور الشرع، ولو على قاعدة “الضرورة الجيوسياسية”، تعبّر عن انزياح تدريجي في أولويات واشنطن، التي باتت تبحث عن شركاء يمتلكون مفاتيح الأرض والتأثير، ولو كانوا خصوماً سابقين. ويبدو أن واشنطن تتعامل مع الشرع كـ”واقعية جديدة” في ظل مشهد سوري تغيّر جذرياً بعد عقد من النزاع والحصار.
وتكشفت خلال الأشهر الماضية سلسلة لقاءات تمهيدية رسمية جمعت الشرع بمسؤولين أميركيين سابقين، أبرزها لقاء ثلاثي مع الرئيس السابق دونالد ترامب وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وصف حينها بأنه “محاولة لبناء معادلة ما بعد الأسد”.
وقد فجّرت تصريحات السفير الأميركي السابق لدى سوريا، روبرت فورد، عاصفة من الجدل داخل واشنطن، بعد أن كشف مشاركته في جهود المصالحة مع الشرع، ما عرّض الخارجية الأميركية لانتقادات لاذعة من أعضاء في الكونغرس وناشطين حقوقيين اتهموها بازدواجية المعايير في تعاملها مع الفاعلين الإقليميين.
عودة بعد 57 عاماً… إلى منبر العالم
منذ خطاب الأتاسي عام 1967، دخلت سوريا في عزلة دولية طويلة، تفاقمت مع اصطفافها إلى جانب المحور السوفياتي، ثم تأكدت بعد الانهيار السوري الداخلي عقب عام 2011. صحيح أن بعض محاولات كسر الحظر ظهرت منتصف العقد الماضي، لكن غياب رأس الدولة السورية عن منبر الأمم المتحدة ظل عنواناً للعزلة السياسية.
اليوم، يمثل حضور أحمد الشرع فرصة لسوريا كي تستعيد مكانتها الدبلوماسية، ليس فقط أمام المجتمع الدولي، بل أمام الرأي العام الداخلي والعربي.
أبعاد إقليمية: بين أنقرة وطهران… والخليج
الشرع يدخل الأمم المتحدة وهو يقف عند تقاطع حساس بين محاور إقليمية متنافسة: من جهة، تسعى تركيا لإرساء تفاهمات جديدة مع دمشق بخصوص اللاجئين والمصالحة السياسية، ومن جهة أخرى، تخيم على العلاقة مع طهران أجواء من التوجس نتيجة اختلاف المواقف من المرحلة الانتقالية في سوريا.
أما الخليج، وتحديداً الرياض وأبوظبي، فيبدو أنه يتهيأ للاستمرار باحتضان دمشق، في سياق إعادة ضبط التوازنات الإقليمية. ومن هنا، قد يحمل خطاب الشرع رسائل انفتاح تجاه الرباعية العربية الداعمة لمسار السلام الفلسطيني–الإسرائيلي، وربما يعرض دمشق كوسيط محتمل في مرحلة ما بعد الحرب على غزة.
البعد الاقتصادي: من العقوبات إلى الإعمار
اقتصادياً، قد يشكل خطاب الشرع في نيويورك منصة للشكر على رفع العقوبات الدولية، وفتح الباب أمام شراكات استثمارية غربية في مشاريع إعادة الإعمار، لا سيما في حلب ودوما ومناطق أخرى مدمّرة. ومن المرجح أن يتضمّن الخطاب دعوات مباشرة للشركات الأوروبية والأميركية للمساهمة في النهوض الاقتصادي، مقابل إشارات – ولو رمزية – على نية الإصلاح والانفتاح.
كما أن إعادة إدماج سوريا في المنظومة المصرفية العالمية سيكون على طاولة النقاش، عبر الضغط الدبلوماسي لإنهاء كلّي لمرحلة العقوبات التي كانت تعيق عمليات التمويل الخارجي.
رسائل داخلية وخارجية: تثبيت الشرعية وإعلان نوايا
من الواضح أن الشرع لا يسعى فقط إلى كسر الحصار الخارجي، بل إلى تثبيت شرعية داخلية جديدة عبر الحضور الأممي. لذلك، فإن الخطاب المرتقب له سيكون اختباراً حقيقياً للنوايا الإصلاحية المعلنة، سواء لجهة إطلاق حوار مع المجتمع المدني، أو التخفيف من القبضة الأمنية، أو إظهار رغبة في إعادة بناء العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن.
السيناريوهات المحتملة: بين البراغماتية والاستعراض
أمام الشرع فرصة نادرة لتحويل هذا الحدث إلى نقطة انطلاق حقيقية نحو “براغماتية دبلوماسية” تُعيد لسوريا دورها في معادلات المنطقة والعالم. أما إذا اقتصر الحضور على استعراض بروتوكولي بلا مضمون، فقد يتحوّل إلى رقم جديد في سجل الفرص الضائعة.
لقد تغيّرت خريطة الشرق الأوسط، وباتت واشنطن تدرك أن مَن لا يملك أوراق الأرض لا يملك مفاتيح الحل. ومن هنا، فإن عودة الصوت السوري إلى منبر الأمم المتحدة ستعيد رسم خطوط جديدة في السياسة الدولية، كلما ترافق الخطاب مع أفعال على الأرض لا أقوال في الهواء.
وختاماً، فإن الرئيس السوري أحمد الشرع هو بحق نموذج للرجل البراغماتي العصامي، الذي صعد بهدوء وثبات من عمق التحديات الوطنية إلى موقع القيادة، حاملاً رؤية متزنة وفهماً عميقاً لقواعد اللعبة السياسية وتوازنات القوى الإقليمية والدولية. فهو لا يكتفي بالشعارات، بل يتحرك بوعي استراتيجي ضمن خريطة جيوسياسية معقدة، مدركاً أن فن الحكم اليوم لا يقوم على الاصطفافات الجامدة، بل على القدرة على المناورة الذكية، والانفتاح المدروس، وصناعة التوازنات لا انتظارها. كما أن الحضور المرتقب للرئيس أحمد الشرع في الجمعية العامة للأمم المتحدة ليس مجرد محطة رمزية، بل هو مؤشر على بدء مرحلة جديدة في مسار العلاقات الدولية لسوريا، تتسم بالبراغماتية والانفتاح المدروس. ففي عالم يعاد فيه ترتيب موازين القوى، ويشهد فيه النظام الدولي تحولات عميقة، قد تجد دمشق نفسها أمام فرصة لإعادة تموضع ذكي يعيد إليها جزءاً من وزنها الاستراتيجي المفقود. لكن النجاح في اغتنام هذه اللحظة التاريخية لا يتوقف على الخطاب وحده، بل على ما يرافقه من سياسات داخلية صلبة، وإصلاحات حقيقية، ومرونة دبلوماسية تواكب التغيرات دون أن تفرّط بالثوابت. فهل تكون هذه المشاركة بوابة لعودة سوريا إلى المشهد الدولي شريكاً لا تابعاً؟ أم أنها مجرد لفتة عابرة في صراع الإرادات الدولية؟ الجواب رهن بما سيتلو هذه الخطوة من أفعال.
د. ابراهيم العرب
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.