خريف آيات الله: أيّ تغيير مقبل على إيران؟ – 1
بقلم إيمان شمص
«أساس ميديا»
عتقد كريم سجادبور الباحث والمحلّل الإيراني الأميركي في مؤسّسة كارنيغي للسلام الدوليّ أنّه “للمرّة الأولى منذ ما يقرب من أربعة عقود، تقف إيران على أعتاب تغيير في القيادة، وربّما حتى في النظام”. يقول: ما لم تتعلّم طهران من أخطائها وتُعيد ترتيب سياساتها، فسيظلّ مسارها نحو الانحدار لا التجدّد. وليس السؤال ما إذا كان التغيير سيأتي، بل ما إذا كان سيجلب أخيراً ربيعاً طال انتظاره أم شتاء آخر وحسب.
يعرض سجادبور عدداً من الاحتمالات المستقبليّة: قد تنهار أيديولوجية الجمهوريّة الإسلامية الشاملة لتتحوّل إلى تشاؤم الرجل القويّ كمثل ما حصل في روسيا ما بعد الاتّحاد السوفيتيّ. ومثل الصين بعد وفاة ماو تسي تونغ، قد تُعيد إيران ضبط نفسها باستبدال الأيديولوجية الجامدة بالمصلحة الوطنيّة البراغماتيّة. وقد تُضاعف القمع والعزلة، كما فعلت كوريا الشماليّة لعقود. وقد يخضع الحكم الدينيّ للهيمنة العسكرية، كما حدث في باكستان. وقد تميل إيران نحو حكومة تمثيليّة، ويؤثّر مسارها ليس فقط على حياة الإيرانيّين، بل وعلى استقرار الشرق الأوسط والنظام العالميّ الأوسع.
إيران بارانويديّة (Paranoid style)
يرى سجادبور أنّ الأشكال المحتملة لنظام إيرانيّ جديد هي:
يتحدّث عن أسلوب “البارانويديّ” الذي كانت ولا تزال تتميّز به السياسة الإيرانيّة من القرن التاسع عشر إلى اليوم، والذي يتمتّع الإيرانيون وفقه بقدرة مذهلة على اختراع نظريّات مؤامرة خياليّة لتفسير تاريخهم، فيُصوَّر الغرباء على أنّهم مُفترسون، وأهل الداخل على أنّهم خونة، وتخضع المؤسّسات للحكم الشخصيّ.
يقول: في مثل هذا الجوّ من انعدام الثقة، يسود الانتقاء السلبيّ ويُقدَّم الولاء على الكفاءة. كان صعود خامنئي عام 1989 مثالاً واضحاً على هذه الديناميكيّة، ومن المرجّح أن تُوجِّه المعايير نفسها خطّة خلافته المُفضَّلة. إنّ ثقافة انعدام الثقة المُتجذِّرة هذه، التي صاغها التاريخ وعزّزها الحكّام واستوعبها المجتمع، لا تُديم الحكم الاستبداديّ فحسب، بل تُعيق أيضاً التنظيم الجماعيّ اللازم للحكومة التمثيليّة. ستظلّ تُلقي بظلالها الطويلة على مستقبل إيران.
لنحو خمسة عقود، حُكمت إيران بالأيديولوجية، إلّا أنّ مستقبلها سيعتمد على اللوجستيّات. من هذا التقلّب، يمكن أن يتّخذ نظام إيران ما بعد خامنئي عدّة أشكال: حكم الرجل القويّ القوميّ، أو استمراريّة رجال الدين، أو الهيمنة العسكرية، أو إحياء الشعبويّة، أو مزيج فريد من هذه الأشكال. تعكس هذه الاحتمالاتُ الفصائليّةَ في البلاد لكن لا يوجد أيٌّ من هذه الفصائل متجانساً، وتطلّعاتها وأفعالها هي التي ستحدّد شكل الصراع على شكل الدولة التي ستصبحها إيران.
إيران مثل روسيا؟
تشبه الجمهوريّة الإسلاميّة اليوم الاتّحاد السوفيتيّ في مراحله الأخيرة: تُحافظ على أيديولوجيّتها المُنهكة بالإكراه، وتخشى قيادتها المُتصلّبة الإصلاح، وقد انصرف مجتمعها إلى حدّ كبير عن الدولة.
سعت كلٌّ منهما بفضل ثورة أيديولوجيّة، روسيا عام 1917، وإيران عام 1979، إلى تمزيق التاريخ وبناء نظام جديد جذريّاً. حاولت كلتاهما الانتقام من الماضي وفرض رؤية جديدة في الداخل والخارج، مُلحقةً الدمار ليس فقط بشعبها، بل أيضاً بالدول المجاورة… في تسعينيّات القرن الماضي، أجّجت الفوضى والنهب الأوليغارشيّ والتفاوت الهائل مشاعر الاستياء وخيبة الأمل.
من رحم تلك الاضطرابات، برز فلاديمير بوتين، الذي وعد بالاستقرار والفخر، وصوّر نفسه على أنّه سيعيد كرامة روسيا ومكانتها الصحيحة في العالم.
مسار مماثل محتمل في إيران. النظام مُفلس أيديولوجيّاً وماليّاً، ومنيع أمام أيّ إصلاح حقيقيّ، وعرضة للانهيار تحت وطأة الضغوط الخارجية والسخط الداخليّ. قد يُحدث هذا الانهيار فراغاً ستسارع النخب الأمنيّة والأوليغارشيّة لملئه. قد يبرز رجل إيرانيّ قويّ، خرّيج الحرس الثوريّ الإسلامي أو أجهزة الاستخبارات، يتخلّى عن الأيديولوجية الشيعيّة من أجل القوميّة الإيرانيّة المدفوعة بالمظالم، التي تكون عقيدة تنظيميّة لنظام استبداديّ جديد.
قد يحمل بعض المسؤولين البارزين مثل هذه الطموحات، ومنهم محمد باقر قاليباف، الرئيس الحاليّ للبرلمان الإيراني والمسؤول الكبير السابق في الحرس الثوريّ الإسلامي. إلّا أنّ ارتباطهم الطويل بالنظام الحاليّ يجعل من غير المرجّح أن يحملوا لواء نظام جديد.
الحقيقة الأوسع: عندما تنهار أيديولوجية شاملة، فإنّها غالباً ما تُخلّف وراءها ليس التجديد المدنيّ، بل السخرية والعدميّة. تميّزت روسيا ما بعد الاتّحاد السوفيتيّ بالسعي وراء الثروة بأيّ ثمن أكثر منها نحو ازدهارها الديمقراطيّ.
قد تُظهر إيران ما بعد الثيوقراطيّة أنماطاً مماثلة: الاستهلاك المفرط كبدائل عن فقدان الإيمان والهدف الجماعيّ. بالنسبة للولايات المتّحدة وجيران إيران، يلوح درس روسيا في الأفق: إن موت الأيديولوجية لا يضمن الديمقراطيّة. يمكنه بسهولة أن يُنتج رجلاً قويّاً جديداً، متحرّراً من أيّ قيود، ومسلّحاً بمظالم متجدّدة، ومدفوعاً بطموحات جديدة.
إيران مثل الصّين؟
لاقى “نموذج الصين” استحساناً لدى المطّلعين على شؤون الجمهوريّة الإسلاميّة الراغبين في الحفاظ على النظام، لكنّهم يدركون أنّ الاقتصاد الفاشل والسخط العامّ الواسع النطاق يتطلّبان محاولة إصلاح.
في هذا السيناريو، سيظلّ النظام قمعيّاً واستبداديّاً، لكنّه سيخفّف من مبادئه الثوريّة ومحافظته الاجتماعية من أجل التقارب مع الولايات المتّحدة والتكامل الأوسع مع العالم والانتقال التدريجيّ من الحكم الديني إلى التكنوقراطيّة. سيحتفظ الحرس الثوري بسلطته وأرباحه، لكنّه، مثل جيش التحرير الشعبي الصيني، سيتحوّل من التشدّد الثوريّ إلى النزعة النقابيّة القوميّة.
لكنّ إيران تواجه عقبتين في سبيل السعي إلى هذا النموذج: ترسيخه واستدامته. أنتجت إيران أشخاصاً يُحتمل أن يكونوا دينغ، بمن فيهم الرئيس الأسبق حسن روحاني وحسن الخميني، لكن لم يستطع أحدٌ منهم التغلّب على خامنئي والمتشدّدين ذوي الفكر المماثل.
تتطلّب محاولة اتّباع النموذج الصيني إمّا أن يتخلّى خامنئي المحتضر عن معارضته الدائمة لواشنطن، وهو أمر مستبعد للغاية، أو أن تُصمَّم خلافة لقائد أقلّ حدّة. وقد تجد إيران صعوبة في اتّباع النهج الصينيّ. إذ سمحت القوّة العاملة الهائلة في الصين بانتشال مئات الملايين من براثن الفقر، وهو ما أكسب الدولة شرعيّة متجدّدة وثقة عامّة. أمّا إيران فتتمتّع باقتصاد ريعيّ أشبه باقتصاد روسيا. فإذا تخلّى النظام عن أيديولوجيته دون تحقيق تحسينات جوهريّة، فإنّه يخاطر بفقدان قاعدته الشعبيّة الحاليّة دون كسب مؤيّدين جدد.
قائد جديد بلا عمامة؟
إذا استمرّت الجمهوريّة الإسلامية في تغليب الأيديولوجية على المصالح الوطنيّة، فقد يُشبه مستقبلها حاضر كوريا الشماليّة: نظام لا يصمد من خلال الشرعيّة الشعبيّة، بل من خلال الوحشيّة والعزلة.
في هذا السيناريو، ستبقى السلطة في أيدي زمرة ضيّقة أو حتّى عائلة واحدة. على الرغم من أنّ خامنئي قد يحاول هندسة خلافة لشخص سيبقى مخلصاً للمبادئ الثوريّة، إلّا أنّ مجموعة المرشّحين المناسبين ضئيلة لأنّ قلّة من رجال الدين المتشدّدين، إن وُجدوا، يتمتّعون بقاعدة شعبيّة أو شرعيّة.
يتبع الإثنين
إيمان شمص
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.