خطاب تاريخي للرئيس جوزيف عون في قمة الدوحة
بقلم د. ابراهيم العرب
بقلبٍ نابضٍ بالعروبة، وعقلٍ مشبعٍ بالمسؤولية الوطنية والقومية، صدح صوت فخامة الرئيس اللبناني العماد جوزيف عون من على منبر القمة العربية – الإسلامية الطارئة في الدوحة، ليعيد إلى الذاكرة معنى الموقف الصادق حين يكون قائماً على الحق، ومعنى الكلمة الحرة حين تكون مشتعلة بالصدق والوفاء. لم تكن كلمته مجرد مشاركة بروتوكولية، بل جاءت كصرخة وجدانية وسياسية حملت أبعاداً إنسانية وقومية وتاريخية، ورسخت صورة لبنان في موقعه الطبيعي: في قلب قضايا أمته، وفي مقدمة الصفوف المدافعة عن الحق العربي.
إنّ ما جرى في الدوحة لم يكن حدثاً عابراً، بل كان عدواناً غاشماً سافراً كشف عن وجه إسرائيل الحقيقي، وعن مدى استخفافها بكل القوانين والمواثيق الدولية. فقد امتدت يد الغدر لتستهدف أرضاً عربية آمنة، وتغتال قادة من حركة حماس، غير عابئة بحرمة دولة مستقلة ولا بسيادتها، في تحدٍ صارخ لإرادة الأمة جمعاء. وفي مواجهة هذا الاعتداء البشع، ارتفع صوت الرئيس عون ليقول بوضوح إنّ الاعتداء على قطر هو اعتداء على لبنان، وعلى كل بلد عربي، وعلى كل ضمير حر في هذا العالم.
لقد رفض فخامته أن يسلك الطريق السهل المليء بعبارات الإدانة التقليدية التي ملأت بياناتنا لعقود، دون أن تثمر شيئاً. بل توجه بخطاب عميق وصريح إلى قادة الأمة وشعوبها، مؤكداً أنّ المطلوب ليس تكرار المفردات المستهلكة، وإنما اتخاذ الموقف العملي الذي يوازي حجم التحدي. لقد أرسى الرئيس عون بجرأته قاعدة جديدة في الخطاب العربي: أن وقت المجاملة انتهى، وأن لحظة الصراحة قد حانت.
ومن بين رسائل كلمته البارزة، جاء تحذيره من أنّ المستهدف الحقيقي من العدوان على الدوحة لم يكن فقط قادةً أو أرضاً عربية، بل كان المفهوم الأسمى الذي تتميز به هذه الأمة: مفهوم الوساطة، وفكرة الحلول السلمية بالحوار. لقد أرادت إسرائيل أن تغتال فكرة المصالحة نفسها، وأن تزرع الرعب في قلوب من يسعى إلى تقريب وجهات النظر. فالجريمة لم تكن جسدية وحسب، بل فكرية وسياسية، غايتها قتل الأمل وتعميم الخوف.
وهنا برزت دعوة الرئيس جوزيف عون إلى تحويل هذا الاعتداء إلى محطة مفصلية، لا إلى حدث عابر في سجل المآسي العربية. فبعيون رجل الدولة البصير، نظر إلى ما هو أبعد من اللحظة، ودعا إلى أن تتوحد الأمة في موقفها وهي مقبلة بعد أيام قليلة على اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة. هناك، حيث يلتقي العالم تحت شعار البحث عن السلام، طالب الرئيس عون بأن يذهب العرب بموقف واحد، يتجسد في سؤال جوهري يطرحه على العالم: هل تريد حكومة إسرائيل سلاماً دائماً وعادلاً في منطقتنا؟ وإذا كان الجواب نعم، فالإطار جاهز عبر مبادرة السلام العربية، التي ما زالت تمثل الطريق الأكثر واقعية وشمولاً للحل.
إنّ لبنان، على الرغم من جراحه العميقة وأزماته الداخلية، أثبت مجدداً من خلال كلمة رئيسه أنّه ما زال صوتاً صادقاً في معركة الأمة، وأنه لا يتخلى عن واجبه القومي مهما اشتدت عليه الظروف. فلبنان الذي خبر مرارة العدوان والإرهاب الصهيوني الوحشي وعاش مآسي الاحتلال، وما يزال، يدرك تماماً أن التضامن ليس خياراً بل قدراً، وأن الوحدة العربية ليست شعاراً بل ضرورة وجودية.
لقد كانت الكلمة بمثابة خارطة طريق للأمة في هذه المرحلة الدقيقة: رفض الاستسلام للعدوان، التمسك بالوساطة والحوار كخيار مبدئي، وتحويل الدماء المسفوكة إلى طاقة توحّد لا إلى وقود انقسام. لقد نقل الرئيس جوزيف عون الموقف من خانة التوصيف إلى خانة الفعل، ومن دائرة الكلام إلى مجال العمل، ليؤكد أن كرامة الأمة ليست محل تفاوض، وأن أمنها القومي لا يمكن أن يُجزأ أو يُباع في بازار السياسة الدولية.
ولعلّ أعظم ما يمكن أن يُقال في ختام هذه اللحظة التاريخية، أنّ كلمة الرئيس عون لم تكن فقط كلمة لبنان، بل كانت كلمة كل عربي حر يشعر بجرح الدوحة كجرحه، وبألم فلسطين كألمه، وبمسؤولية النهوض كواجب شخصي. فلقد أعاد الرئيس اللبناني التذكير بأنّ لبنان، رغم صغره الجغرافي، كبير برسالته، قويّ بمواقفه، وحاضر في قلب معادلة الأمة العربية، وأمين على قضاياها الكبرى.
فهنيئاً للبنان برئيس عبّر بصدق عن أصالته، وهنيئاً للأمة العربية بموقف يعيد الاعتبار إلى معنى التضامن الحقيقي، ويؤكد أن زمن الصمت انتهى، وأن زمن الفعل العربي الموحد قد بدأ.
ونختم بالتقدّم باسم لبنان بالتعزية والمواساة لأسر الشهداء الذين ارتقوا في العدوان على الدوحة، من قادة حركة حماس وغيرهم من الأبرياء. فدماؤهم، لا تخص بلداً دون آخر، بل هي دماء تسيل في شرايين الأمة كلها، كما يُستشفّ من موقف الرئيس عون؛ ونتوجه أيضاّ بالدعاء إلى الله أن يمنّ بالشفاء على الجرحى والمصابين، مؤكدين أن آلامهم هي آلامنا، وأن صبرهم هو امتحان لنا جميعاً.
د. ابراهيم العرب
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.