خطّة غزّة: إيران “الضائعة”
بقلم محمد قواص
«أساس ميديا»
تنظر إيران بعين قلقة إلى مسار مفاجئ وخارج الحسابات قد يؤدّي إلى إنهاء الحرب في غزّة. المفاجأة أنّ حركة حماس ردّت بإيجابيّة نسبيّة مبكراً، أي قبل 3 أيّام من انتهاء مهلة دونالد ترامب للحركة لإعطاء الردّ. والمفاجئ أيضاً أنّ سيّد البيت الأبيض رحّب بشكل فوريّ بردّ “حماس” ولم يكترث بالالتباس الذي شاب بيان الردّ. والمفاجئ أيضاً وأيضاً أنّ الحركة التي كانت لأشهرٍ مضت محسوبة على نفوذ طهران ومرشدها شكرت الرئيس الأميركيّ على جهوده. والمفاجأة أخيراً أنّ إيران كما إسرائيل تتشاركان في الامتعاض من مفاجأة لم يتوقّعاها.
يكمن قلق إيران في أنّ وقف حرب غزّة يغلق ملفّاً إيرانيّاً لطالما نهلت منه خطاباً نشرته لدى فصائلها التابعة في المنطقة، وأسّست على قواعده تيّار الممانعة العابر للحدود. لكنّ إغلاق ملفّ غزّة عسكريّاً قد يرفع احتمالات مواجهة إيران عسكريّاً. وتأتي خسارة إيران لنفوذها الغزّيّ مكمّلاً لمنحدر بدأ منذ “طوفان الأقصى”، في تشرين الأوّل 2023، قوّض نفوذ حزبها في لبنان، وأضعف نفوذ فصائلها في العراق، وكشف حدود قوّة جماعتها في اليمن، وأفقدها نهائيّاً السيطرة على سوريا، وهي مفصل محورها، والمركز الأساسيّ البنيويّ لـ”هلالها” ما بين طهران وبيروت.
خارج النّادي الإقليميّ
اكتشفت إيران تفاقم عزلتها في المنطقة داخل بلدان عملت منذ قيام الجمهورية الإسلاميّة عام 1979 على العبث بأمنها وتوازناتها والسعي إلى الهيمنة على مساراتها. لم تكن إيران إلى طاولة ترامب، التي انعقدت على هامش أعمال الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة في نيويورك، لبتّ مصير غزّة ومستقبلها.
دعا الرئيس الأميركي في 27 أيلول، أي قبل 3 أيّام من إعلانه خطّته للسلام، قادة وممثّلي دول عربيّة وإسلاميّة إلى مناقشة تلك الخطّة والتشاور بشأنها معهم. وصف ترامب الاجتماع بأنّه كان “مميّزاً”، فيما أجمع المشاركون على أنّ اللقاء كان “مثمراً”. خلص الحضور إلى هذا الاستنتاج البنّاء بعد حوالي ساعة استغرقها الاجتماع، وهو ما كشف أنّ الحضور لم يطّلعوا على الخطّة في ذاك اللقاء، بل كانوا جزءاً مؤسّساً لها قبل ذلك.
حضر الاجتماع قادة وممثّلو الدول المعنيّة عادةً بملفّ غزّة وفلسطين: السعوديّة وتركيا ومصر والإمارات وقطر والأردن. لكن هذه المرّة وُجّهت الدعوة أيضاً إلى إندونيسيا وباكستان. قالت مصادر أميركية إنّ ترامب يبحث عن مظلّة إسلاميّة لخطّته تفسّر دعوة الدولتين الإسلاميّتين اللتين تتمتّعان بالثقل الوازن ديموغرافيّاً واقتصاديّاً وجيوستراتيجيّاً. لكنّ اللافت أنّ الرئيس الأميركي دعا باكستان بالذات بعد أكثر من شهر على إبرامها والسعوديّة اتّفاق الدفاع الاستراتيجيّ المشترك في 17 أيلول الماضي. بدا أنّ واشنطن أخذت علماً بهذا التطوّر، واعترفت أنّ باكستان باتت لاعباً نهائيّاً وأساسيّاً في شؤون الشرق الأوسط.
تجد إيران نفسها خارج “النادي الإقليميّ” وإن رحّبت باتّفاق السعوديّة وباكستان. وتجد أنّ انشغالها بـ”آليّة الزناد” والعلاقة مع “الوكالة الدولية للطاقة الذرّية” وعودة العقوبات الأمميّة الشاملة من جديد.. إلخ، يجعلها خارج مجالات الفعل. اعتادت طهران طوال العقود الماضية الاستثمار في “الدويلات” لتقديم نفسها رقماً صعباً في كلّ ملفّات المنطقة، لكن باتت تجهد في تخليص ملفّها الذاتي من تعقّد يتفاقم، وتفقد القدرة على الاستعانة بمواهب ميليشياتها وجماعاتها في المنطقة، بما في ذلك تلك التي كانت تحكم قطاع غزّة وتتحكّم به.
حتّى “حركة الجهاد الإسلامي” التي تُعتبر الأكثر التصاقاً بالقرار الإيراني، أعلنت أنّها جزء داعم لقرار “حماس” بالتعامل الإيجابيّ مع خطّة ترامب. صحيح أنّ في ردّ “حماس” ما يبقى ملتبساً بالنسبة لبنود الخطّة المتعلّقة بسلاحها، غير أنّ ما صدر عن منابرها أفاد أنّه إذا ما كان هناك تسليم للسلاح فسيكون للسلطة الفلسطينيّة.
زمن التّجريب والحيرة
يعني الأمر أنّ جدل السلاح في غزّة بات محسوماً، وأنّ قبول الحركة بالانسحاب من حكم القطاع لمصلحة أجسام تحدّثت عنها خطّة ترامب يمهّد الطريق لمسار منطقيّ وحتميّ سيطال سلاح “الحزب” في لبنان ولو بعد حين، ويمهّد لمصير مماثل لأسلحة الفصائل و”الحشد” في العراق، وسقوط بدعة الميليشيات، تكاملاً، لصدفة ربّما، مع قرار زعيم حزب العمّال الكردستاني في تركيا عبدالله أوجلان حلّ الحزب وتسليم سلاحه.
تفقد طهران من خلال شراكة عربية وإسلامية مع الرئيس الأميركي في خطّة غزّة، كثيراً من زمام المبادرة الذي كادت تحتكره حين أعلنت منابرها السطو على 4 عواصم عربيّة. تعود تلك العواصم تدريجاً إلى أصحابها. تراقب طهران “هلالاً” باكستانيّاً سعوديّاً يُسقط هلالها الطموح. تفقدها خسارتُها للورقة الفلسطينيّة واستعادتُها من قبل الدائرتين العربيّة والإسلاميّة بإقرار أميركي “عُدّةَ الشغل” التي تكاد تكون الوحيدة إلى جانب خطاب التشيّع وولاية الفقية والقتال ضدّ “الاستكبار”.
بعد أسابيع من “طوفان الأقصى” استقبل المرشد علي خامنئي قياديّ “حماس” الراحل إسماعيل هنيّة. سرّبت طهران حينها لوكالة “رويترز” أنّ المرشد أنّب ضيفه على فعلة “الطوفان”. كانت طهران حريصة على إبلاغ العالم براءتها من ذلك الحدث. استنتجت إيران لاحقاً أثمان الواقعة على وجود “المحور” وسلامة نظامها. هذه الأيّام ترتبك طهران متأمّلة قرب انتهاء “نكبة” غزّة وقبول “حماس” لخطّة زعيم “الشيطان الأكبر”. لم تجد غير زعيم “الحزب” في لبنان ليؤنّب من جديد “حماس” على فعلتها بقبول خطّة اعتبرها “مليئة بالأخطار”، محذّراً من “إسرائيل الكبرى”، ثمّ صحّحت ذلك اللوم في اليوم التالي عبر بيان “الحزب” الداعم لقرار “حماس” والثناء عليها.. إنّه زمن التجريب والحيرة بامتياز.
محمد قواص
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.