داوود: ملك إسرائيل أم زعيم عصابة؟
بقلم إيمان شمص
«أساس ميديا»
تُجنّد إسرائيل علم الآثار أداة لصياغة تاريخ يؤكّد حقّها وحقّ الشعب اليهودي في الوجود الشرعي تاريخيّاً ودينيّاً في أرض فلسطين، وفي خدمة امتلاك هذه الأرض وتوطين يهود العالم فيها، باعتبارها “أرض الميعاد” وباعتبار القدس “مملكة النبيّ داوود”، بحسب نصوص العهد القديم. غير أنّ صياغة هذا التاريخ عبر التنقيب عن الآثار لا يجد توافقاً عليه، حتّى بين علماء الآثار الإسرائيليّين أنفسهم الذين ما زالوا يتجادلون في قصّة الملك داوود المذكورة في كتاب التوراة منذ آلاف السنين. فالأدلّة الأثرية على حياته شحيحة: هل كان ملكاً والقدس مملكته؟ أم كان كما يدّعي عالم الآثار الإسرائيلي الشهير يسرائيل فنكلشتاين قائد عصابات يرهب الفلسطينيين وأصبح زعيماً للبدو؟
روايتان مختلفتان
بحسب رواية فنكلشتاين (76 عاماً) من جامعة تل أبيب، “كانت القدس، في القرن العاشر قبل الميلاد، مكاناً غير مضياف للفلّاحين، لكنّها موقع استراتيجي للفارّين. كانت الحياة في التلال قاسية بحكم انعزالها عن السهول الساحلية، ومنازلها المبنيّة من الحجر الخام تؤوي الأغنام والماعز. في هذه التلال ذات الطبيعة الوعرة كانت تجول عصابات الفارّين والعمّال المعدمون وجماعات المتهرّبين من الضرائب. ينهبون القرى المجاورة، يجمعون أموال الحماية ويسلبون السكّان المحليّين نساءهم وماشيتهم. يرهبون الفلسطينيين، ثمّ، في تحوّل مفاجئ، يعرضون خدماتهم على ملك فلسطيني مقابل مأوى.
رجل خُلق لغير الغارات
قائدهم رجل ماكر وذكيّ من بيت لحم قرّر أنّ شعبه خُلق لشيء آخر غير الغارات الخاطفة ومهامّ المرتزقة. فكان يرسل رجاله لطرد قوّة متقدّمة، ثمّ يتقاسم الغنائم مع شيوخ المرتفعات، فنال بذلك تعاطف سكّان الجبال، الذين عيّنوه زعيماً لمنطقة التلال الجنوبية، وسيطر لاحقاً على المركز القبلي في الخليل، ثمّ احتلّ القدس، وهي معقل آخر في التلال، واستقرّ مع عائلته في ما قد يسمّيه البعض قصراً، على الرغم من عدم وجود أيّ إسراف فيه. وأصبح الحاكم لمنطقة مهملة من الرعاة والمجرمين.
هذا الرجل اسمه داوود
هذا الوصف الذي يقدّمه يسرائيل فنكلشتاين للملك داوود، “المتجوّل والمبتزّ”، ساهم في بناء مسيرته المهنيّة كعالم آثار توراتيّ حداثيّ بارز. عُيّن في عام 1993 أستاذاً في جامعة تل أبيب، وعمل على مسائل الموائل البشرية في جنوب بلاد الشام القديمة، وخاصّة في كنعان، التي تقع في ما يُعرف الآن بإسرائيل. وفقاً لفنكلشتاين، “وصل المستوطنون الأوائل إلى هناك نتيجة التغيّرات الداخلية في المنطقة، حيث استقرّت المجتمعات البدويّة لبضعة أجيال خلال فترات ازدهار التجارة، ثمّ اقتُلعت جذورها قبل أن تستقرّ مرّة أخرى”. وكان بنو إسرائيل، حسب قوله، “من أصل محلّيّ”، أي من البدو الرحّل.
لكنّ الكتاب المقدّس يروي القصّة بشكل مختلف.
في قصّة العهد القديم، كانت كنعان هي المكان الذي انتهت فيه هجرة العبرانيين، حيث ضمِن داوود لشعبه مملكة مجيدة. منذ حوالي عام 1000 قبل الميلاد، حكم هو وابنه سليمان مملكة شاسعة ضمّت أربع ممالك مهزومة، امتدّت شمالاً حتّى نهر الفرات وجنوباً حتّى صحراء النقب. كانت المملكة المتّحدة، كما كانت يطلق عليها، تُمثّل العصر الذهبي لإسرائيل القديمة. وعلى الرغم من أنّها لم تدُم أكثر من جيل أو جيلين على الأرجح، إلّا أنّ إرثها استمرّ لآلاف السنين.
يُصوّر الكتاب المقدّس داوود بطلاً وشخصيّةً لامعةً، وإن شابها بعض الخلل، قادرة على عنف لا يُوصف، لكن أيضاً على الندم والحنان. اختاره الله ليحلّ محلّ شاوول، أوّل ملك لإسرائيل، الذي اتّسم حكمه القصير بنوبات من التمرّد. كان راعياً وسيماً، بارعاً في العزف على القيثارة وفي التعامل مع النساء. يرمي عملاقاً بحجر قاتل. حتّى الآن، هذه هي السمات المألوفة لبطل العصور القديمة.
التّنقيب “عمليّة عسكريّة سياسيّة”
في دولة إسرائيل الناشئة، كانت هناك قيمة أساسيّة للأبحاث الرامية إلى إثبات العلاقة بين الشعب اليهودي وأرض أجداده. قال ديفيد بن غوريون، أوّل رئيس وزراء، إنّ “علم الآثار اليهودي يربط زمننا بماضينا ويظهر استمراريّتنا التاريخية في البلاد”. أصبح يغال يادين، عالم الآثار الرائد في البلاد، رئيس أركان جيشه الأسطوريّ.
عام 1955، بدأ يادين حفريّات تاريخية في مدينة حاصور القديمة التي بحسب الكتاب المقدّس دمّرها يوشع أثناء غزوه لبلاد كنعان، وأعاد سليمان بناءها وتحصينها لاحقاً. تعامل يادين مع الحفريّات كعمليّة عسكرية. اكتشف رجاله بوّابة حجرية بدت مطابقة تماماً لبوّابة كان قد اكتشفها سابقاً في مجدو، وهي مدينةٌ أخرى يُعتقد أنّ سليمان بناها. وخلص يادين إلى أنّ هذا دليل على تصميمٍ عظيم. وكتب عام 1958: “تمّ بناء البوّابتين على يد المهندس المعماري الملكي نفسه”.
كانت مثل هذه الاكتشافات تساعد في إلهام ما وصفه أحد المؤرّخين بأنّه “عبادة وطنية شعبيّة” لعلم الآثار. لم تمتدّ هذه العبادة إلى منزل فنكلشتاين الذي لا يتردّد في التساؤل عن إمكان أن تكون روايات الكتاب المقدّس مبنيّة على حقائق تاريخيّة. بعد سنوات من البحث في التلال، أراد أن يستكشف موقعاً في السهول ليرى هل البنى الاجتماعية قد نشأت بشكل مختلف هناك. اختار مجدو، أرض يادين القديمة. كانت “لوحة مفاتيح بلاد الشام”، كما يقول. أمضى عاماً يدقّق في علم الطبقات والخرائط الزمنيّة.
كان يادين قد أرجع أضخم طبقة في الموقع إلى العصر السليمانيّ. ولكن كانت هناك أدلّة مُحيّرة في شكل آثار من قصر منهار تحمل علامات نحّاتين تشبه تلك الموجودة في قصر في المدينة القديمة السامرة التي تمّ إرجاع تاريخها بشكل مقنع إلى قرن بعد حكم سليمان. وحين زار فنكلشتاين موقع حفريّات زميل له في وادي يزرعيل، لاحظ أنّ الفخّار، المصقول يدويّاً والمطليّ باللون الأحمر، يشبه إلى حدّ كبير خزف مجدو. لكنّ الموقع كان من عهد العمريّين، الذين حكموا إسرائيل في القرن التاسع قبل الميلاد.
بحسب فنكلشتاين: “كان هناك شيء غير منطقي في الأساس”. فعلى مدى ثلاثة قرون قبل عهد داوود، حكم فراعنة المملكة المصرية الحديثة بلاد كنعان. ولكن بحلول القرن العاشر قبل الميلاد، كانت الإمبراطوريّة المصريّة قد انحسرت وتضاءلت بسبب جفاف إقليميّ مدمّر أدّى أيضاً إلى تدمير الإمبراطوريّة الحثّيّة، في تركيا الحاليّة، والإمبراطوريّة الميسينيّة في اليونان.
ما هي احتمالات ظهور إمبراطوريّة واحدة فجأةً على الساحة العالمية، وفي مرتفعات يهوذا المهملة تحديداً؟ قال فنكلشتاين: “الإمبراطورية تحتاج إلى عاصمة. لا يوجد شيء تقريباً في القدس، فهي قرية صغيرة جدّاً. تحتاج الإمبراطورية إلى قوّة عاملة. لا يوجد شيء في يهوذا. بعض القرى الصغيرة فقط. تحتاج الإمبراطوريّة إلى إدارة. لا توجد إدارة. لا توجد أنشطة كتابيّة. أين هي الإمبراطوريّة“؟
* من مقال مطوّل للكاتبة ذروث مارغاليت، المقيمة في تل أبيب، نُشر تحت عنوان “مبنى على الرمال” في عدد 29 حزيران 2020 من مجلّة “نيويوركر” الأميركية.
* جمعيّة إلعاد (بالعبريّة هي اختصار لجملة “إيل عير دافيد”، وتعني بالعربيّة: “نحو مدينة داوود”) هي جمعيّة استيطانية يهودية بدأت بالاستيلاء على الممتلكات الفلسطينية في القدس بدعم من الوزارات والجهات الرسمية الإسرائيلية، وطرد سكّانها الفلسطينيين، ونقل الممتلكات إلى المستوطنين الإسرائيليين اليهود.
إيمان شمص
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.