دروس من مآسي الحرب

3

بقلم محمد السماك

«أساس ميديا»

خرجت أوروبا من الحرب العالمية الثانية بمشهد شبيه بالصورة التي يبدو عليها قطاع غزة حالياً بعد الحرب الإسرائيلية عليه. توقف إطلاقُ النار، لكن ملايين الأوروبيين كانوا يموتون أو يواجهون الموت جوعاً أو بسبب الأمراض والصراعات المحلية. كانت أجزاء واسعة من المدن الأوروبية، وكذلك الآسيوية، مدمّرةً. وكان ملايين الأوروبيين مشرّدين يبحثون عن مأوى أو ملجأ. لم يكن أحد يتصور أو يؤمن بإمكانية القدرة على النهوض مجدداً.

خرجت بريطانيا من الحرب دولةً مفلسةً، وخرجت ألمانيا دولةً مدمّرةً. كان الألمان مضطرين لشرب مياه ملوّثة ببقايا الجثث، وحتى اليابان التي تعيش على التجارة مع دول العالم، فقدت 80 بالمائة من قطع أسطولها التجاري الذي يُعتبر بالنسبة لليابانيين شريان حياتهم، أما أسطولهم العسكري فحدِّث ولا حرج. في عام 1946 لم يكن هناك سوى قلّة صغيرة من الناس تؤمن بإمكانية العودة إلى الحياة الطبيعية مرة أخرى.. كان اليأس سيّد الموقف. وزاد الطينَ بلّةً نشوبُ حرب أهلية في اليونان (أوروبا) وفي الصين (آسيا). وقام ستالين بعمليات التهجير الواسعة متسبباً بانتشار المجاعة في العديد من مناطق الاتحاد السوفييتي السابق، بما فيها أوكرانيا، مما حمل رئيس الحكومة البريطانية في ذلك الوقت (ونستون تشرشل) على رفع شعار «الستار الحديدي» ضِمن خطاب ألقاه في واشنطن.

في ذلك الوقت أيضاً، ونزولاً عند طلب الجنرال الأميركي دوغلاس ماك آرثر، اضطر إمبراطور اليابان هيروهيتو للتنازل عن «قداسته»، ولتسليم مقاليد الحكم إلى القوات الأميركية، فوق أنقاض هيروشيما وناكازاكي، المدينتين اللتين دُمّرتا بالقنابل النووية الأميركية، وفوق بقايا طوكيو التي كانت شقيقة برلين في التدمير الممنهج نتيجة قصف الطيران الحربي الأميركي للمدينتين. ثم تُوّجت كل هذه التداعيات بقيام الحرب الباردة في عام 1946، والتي استمرت تقضّ مضجع السلام العالمي حتى سقوط جدار برلين في عام 1989 ومن ثم سقوط الشيوعية وتمزّق الاتحاد السوفييتي، وتناثر مكوّناته. مرّت أوروبا، وكذلك الصين واليابان والاتحاد السوفييتي، بحالة تشبه الوضع المأساوي الذي تعانيه اليومَ غزةَ والضفة: جثث متراكمة، ودمار فوق دمار.

لكن المأساة لم تستمر طويلاً، فقد ساعد «مشروع مارشال» الأميركي الدولَ الأوروبية على النهوض مجدداً، وساعدت الثورةُ الصينية على نفض غبار الهزيمة والتخلّف، وحقّقت اليابانُ معجزتَها الصناعية الحديثة، وأعادت بناءَ أسطولها التجاري من جديد.

توّحدت المجموعة الأوروبية، وتبوّأت الصينُ مركزَ الدولة الأولى في آسيا (وربما في العالم)، وخرج الاتحاد السوفييتي من المجاعة إلى الثنائية القطبية مع الولايات المتحدة في إدارة شؤون العالم خلال عقود الحرب الباردة. وحتى الهند، التي خرجت من الاحتلال البريطاني الاستنزافي منقسمةً على ذاتها (الهند – الباكستان – بنجلادش)، والتي عانت أزمات إنسانية، تَطرق الآن أبوابَ العالَم الأول بصناعاتها الإلكترونية المتقدمة. قبل الحرب العالمية الأولى كان حجم القوات العسكرية الأميركية أقل من حجم قوات رومانيا، واليوم تعتبر الولايات المتحدة الأولى عسكرياً في العالم، وقواتها موجودة في كل القارات، بما في ذلك أوروبا. وهكذا كانت بريطانيا، وإلى حد ما فرنسا وإسبانيا والبرتغال، وهي الدول الأوروبية التي وصلت أذرعها العسكرية إلى آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية.. قبل أن تنهشها الصراعاتُ الدينيةُ بين الكاثوليك والإنجيليين، والمنافسات التوسعية التي تسبّبت في نشوب سلسلة الحروب البينية.

العالم يتغيّر باستمرار، والحروب بما تسبّبه من مآسٍ وكوارث إنسانية أداةٌ مِن أدوات التغيير.. حدث ذلك مراراً في السابق، ويتكرّر اليوم في غزة وأوكرانيا.. إنها حالة لا تقبل الاستثناء. ولقد ارتكبت إسرائيل – وما زالت ـ جرائم مروعة ضد الفلسطينيين.. لكن يحدونا الأمل في أن المستقبل يحمل للفلسطينيين فرصة كبيرة لنيل حقوقهم المشروعة.

محمد السماك

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.