نتابع عرض النصائح السياسية والإدارية النفسية لكبار القادة والإداريين، وذلك من كتابنا “القواعد النفسية للسلطة”.
في السلطة… لن ترتاح
في اللحظة التي تدخل فيها عالم السلطة، تذكر أنها مكان للصراع وليس مكاناً للسكون. والسكون فيها مستنقع آسِنٍ، وهو كالجمر تحت الرماد. وليس عليك إلا إدارة الصراع لا الهروب منه ولا تبسيطه.
القاعدة: لا يوجد سكون في السلطة، بل صراع دائم.
مثال تاريخي:
تشرشل خلال الحرب العالمية الثانية: لم يعرف لحظة سكون، لأنه رأى أن القيادة تعني إدارة الأزمات، لا الارتياح. وقال في ذلك ما يعزز إدارة الصراع.
***
أبعد الصراع عن شخصك… والصقه بهم
إنَّ فن إدارة الصراع يقتضي إبعاده ما أمكن عنك. وإلهاء الآخرين بصراعاتهم التي يجب أن تكون أنت نقطة تلاقيها الأخير ومرجع حلولها. ولا تدع أحداً مرتاحاً ولكن لا تجعله في دوامة الصراع. فالمرتاح لا ينتج ويتفرّغ لك، والغارق في دوامة الصراع دائم التوتر وغير منتج أيضاً.
القاعدة: لا تكن أنت مركز النزاعات، اجعل الآخرين ينشغلون ببعضهم.
مثال تاريخي:
نيقولا ميترنيخ، وزير خارجية النمسا (1815–1848): أدار صراعات أوروبا الكبرى عبر تفكيك التحالفات وجعل الآخرين يتصارعون، بينما بقي ممسكًا بالخيوط من بعيد.
***
أسوأ الخيارات… الحرب
لا تذهب إلى الحرب بقدميك. إذ عندما تندلع الحروب فإنها تدمّر، وعندما يحصل الدمار فلا أحد ينجيك من الحقد بأسوأ الأحوال، ومن اللوم بأحسن الأحوال.
ولكن إذا فُرضت عليك الحرب، حاول إيجاد استراتيجية الخروج منها بسرعة وبأقل التكاليف.
القاعدة: لا تدخل الحرب بنفسك، إلا مضطراً وباستراتيجية خروج.
مثال تاريخي:
في حرب 1967: ذُهب إلى التصعيد وصولا إلى الحرب بلا تخطيط كافٍ، وكانت النتائج كارثية.
وهكذا فعل كل من دخل حربا أهلية للمحافظة على السلطة. دخلها دون استراتيجية خروج والنتيجة أنه غرق بها!
***
ضرباتك… مُركّزة
عندما تُسدّد ضرباتك لا يجب أن تُشتتها في كل مكان. الحياة صراع مفتوح والأعداء كُثر، فلا تفتح أكثر من معركة بأكثر من اتجاه لكي لا تقع في (دونكيشوتيّة الصراع: أي مواجهةُ أكثر من عدو من أكثر من اتجاه كدونكيشوت الذي قاتل طواحين الهواء.).
القاعدة: لا تُشتّت نفسك في معارك كثيرة أو صغيرة، واختر حروبك الكبيرة.
مثال سياسي:
فلاديمير لينين بعد الثورة الروسية 1917، أدرك أن خوض معارك ضد كل الجبهات (الرجعية، الرأسماليين، الفلاحين، القوى الأوروبية) في وقت واحد سيُفشل الثورة. فركّز على الحسم السريع ضد حكومة كيرينسكي، ثم عقد سلام بريست ليتوفسك مع ألمانيا رغم أنه اتفاق مذل، لكي يُركّز على الحرب الأهلية داخليًا.
مثال إداري:
ستيف جوبز عند عودته إلى Apple عام 1997، ألغى عشرات المشاريع الثانوية وركّز فقط على عدد محدود من المنتجات (iMac، iPod لاحقًا). تركيزه أعاد الشركة إلى الريادة بدل التشتت.
***
حروبك… تدلُّ عليك
لا تخض حروباً مجانيّة. ركِز كي تخوض الحروب الكبرى. فالحروب الصغيرة تُشتتك.
وأنت مخلوق… لكل ما هو كبير.
القاعدة: تجنّب المعارك التي لا تُربح، وكن مرناً في وجه العواصف.
مثال: ونستون تشرشل – تركيز على الحرب الكبرى فقط (الحرب العالمية الثانية)
السياق:
عندما تسلّم تشرشل رئاسة الحكومة عام 1940، رفض خوض معارك جانبية ضد خصومه السياسيين أو في مستعمرات ثانوية.
ما فعله:
ركّز كل موارده على الحرب مع هتلر، باعتبارها “الحرب الحقيقية” التي ستُحدّد مصير بريطانيا.
تجاهل الدعوات الداخلية لتفاوض مبكر أو إلهاء بمناوشات جانبية.
لم يدخل أي صراعات سياسية حتى أنه شكّل “حكومة وحدة وطنية” مؤقتة.
النتيجة:
قاد بريطانيا إلى النصر في الحرب، واستطاع أن يجعل من نفسه رمزًا للصمود التاريخي.
الدلالة:
تشرشل عرف أي حرب تستحق أن تُخاض، فترك ما هو صغير ليُركّز على معركة المصير.
ملحق إداري: جيف بيزوس في أمازون
ما فعله:
لم يردّ على الهجمات الإعلامية الصغيرة.
تجاهل الدخول في منافسات صغيرة مع متاجر محلية أو ناشئة.
ركّز كل قوته على بناء شبكة التوزيع واللوجستيك (الحرب الكبرى).
النتيجة:
أمازون أصبحت إمبراطورية التجارة الإلكترونية، فيما اختفت منافذ كانت تستهلك طاقة منافسيه في صراعات جانبية
مثال آخر:
رئيس تنفيذي لشركة ناشئة في مواجهة عملاق تقني (مثل Google أو Amazon)، يتراجع مؤقتًا عن إطلاق ميزة مشابهة لتلك التي تُنافس بها الشركة العملاقة، كي لا تُسحق. لكنه يركز على نَمو رأس المال أو الابتكار بهدوء، ليعود في وقتٍ أقوى.
***
الانحناء… واجب أحياناً!
لننحنِ للريح في الصراعات، عندما تكون عاتية ولنتعلم الصبر. فالريح لا تبقى طويلاً.
مثال:
تشو إن لاي، رئيس وزراء الصين تحت حكم ماو، نجا من التطهيرات والمذابح السياسية في الثورة الثقافية عبر “الانحناء” المؤقت، وحماية نفسه بصمت دبلوماسي حتى جاءت لحظة الانفتاح، حيث لعب دورًا محوريًا في زيارة نيكسون.
***
المهم أن تعيش لا أن تُقتل
لا يجب أن تخوض معركة خاسرةً ولنعتمد المثل القائل:
المكان الذي قد تُقتل به لا تدخله ولو كنت قتّالاً.
المثال: هروب نابليون من روسيا (1812)
السياق:
نابليون بونابرت، أحد أعظم القادة العسكريين، غزا روسيا في صيف 1812 بجيشٍ ضخم، متجاهلاً تحذيرات المناخ والتضاريس.
ما حدث:
الروس استخدموا “استراتيجية الأرض المحروقة”، وتراجعوا دون قتال تاركين نابليون يتقدّم في عمق روسيا.
قرر المارشال كوتزوف القائد الأعلى للجيش الروسي الانسحاب من موسكو وحرقها ودخل نابليون موسكو ووجدها خالية ومحروقة.
في الشتاء، بدأ الانسحاب بعد أن فقد الإمداد والدفء، فمات معظم جيشه من البرد والجوع. وكرّ عليهم الروس .
النتيجة: من أصل 600,000 جندي دخلوا روسيا، عاد أقل من 100,000.
الدلالة على القاعدة: دخل معركة لم يكن يجب أن يدخلها، في أرض لا يحتملها جيشه، فكانت كارثة أنهت سطوته.
كان الأجدى به تجنب الدخول في أرضٍ معادية لا تُبقي ولا تذر – فالموت المحقق ليس بطولة
***
شجاعة… لا مجازفات
الشجاعة لا تعني أن نتهوّر. ولكن إذا ما بدأنا ما نحن واثقين منه، لا ينبغي أن نتردّد ولنُتابع به.
ولتكن مراجعاتنا دائمة لما فعلناه، بين الحين والآخر، ولطريقتنا في الوصول الأمثل لهدفنا، لا للتشكيك في الهدف نفسه
القاعدة: لا تبدأ إلا ما تتقن السير فيه، وراجع الوسيلة لا الهدف.
مثال سياسي:
غاندي لم يبدأ العصيان المدني إلا حين تأكد من وعي الشعب الهندي واستعداده لحملات اللاعنف. لم يكن مجازفاً عشوائياً، بل أعاد تقييم الأدوات باستمرار (صيام، انسحاب، تهدئة).
مثال إداري:
مدير مشروع تقني قرر ألا يدخل في تطوير نظام جديد كلياً قبل دراسة قدرات فريقه جيداً. بدأ بخطوات صغيرة ومتتابعة (MVP) وبنى النجاح بشكل تراكمي.
***
الزهو…!!!
الأخطر أن نكشف ونُعلن بزهوٍ ما قمنا به.
فمقتل القادة… زَهوهم؛ فهو يكشفهم بلا حدود، ولا يهيئوهم للمعركة المُقبلة. والأخطر أن لا نحسب حساب أحد عندما نزهو… فنؤخذ على حين غرّة.
القاعدة: لا تُظهر زهوك عند الانتصار، فذلك يكشفك، ويضعفك في المعارك التالية.
مثال سياسي:
نابليون بونابرت بعد انتصاراته المتلاحقة، دخل روسيا عام 1812 بزهو مفرط، دون تقدير صعوبة الشتاء الروسي. وكانت نهايته السياسية والعسكرية هناك.
مثال إداري:
شركة تقنية صغيرة حصلت على تمويل كبير، وبدأت بالاحتفال والتوسع الإعلامي قبل بناء منتجها. الزهو جعلها مكشوفة للمنافسين وسرّعت من انهيارها.
الخلاصة:
لا للزهو… أمامك حربٌ
عندما تنتصر في معركة لا يجب أن يملأك الزهو والفرح. فليس هنالك أخطر من إدخال مشاعرك في العمل العام، والأهم أنك ربحت (معركة) ولم تربح (الحرب)؛ فكلُّ حياتك في السياسة معارك أو حروب. وإذا أظهرتَ زهوك وخسرت جولةً لاحقة، لا الحرب؛ سيكون وقعُ خسارتك في جولةٍ كوقع خسارتك للحرب.
د. عماد فوزي شُعيبي
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.