رسائل إلى القادة والسياسيين فن التفاوض
الحلقة 19
د. عماد فوزي شُعيبي
نتابع عرض الرسائل لكبار القادة السياسيين والإداريين وذلك من كتابنا القواعد النفسية للسلطة بعد التعديل.
فاوض… بالثقة
“الثقة أساس الحكمة، والمصداقية مفتاح الاتفاق.”
جان جاك روسو
المداخل النفسية السليمة هي التي توصلك إلى نتائج سليمة، لذلك ينبغي أن يكون هدفك في الجلسات الأولى تفاوضياً بناء أساس من المصداقية والثقة وفي وقت مبكر.
وعندئذ ستنساب المناقشات بسلاسة نحو الوصول إلى حلٍّ مُرضٍ للأطراف.
ابدأ ببناء الثقة والمصداقية في الجلسات الأولى، فذلك يمهد انسيابية التفاوض ويخلق أرضية رابح/رابح.
أمثلة من التاريخ السياسي التفاوضي:
اتفاق سلام جنوب السودان (2005) – البيئة المبنية على مقاييس الثقة الرئيسة ساعدت على التوصل لإنهاء النزاع.
أمثلة إدارية/تجارية
1. إطلاق شركتين شراكة بين Apple وIBM (2014) – الثقة هي ما مكّن الشركات من التعاقد على مشاريع تجارية مشتركة رغم تاريخ العداء.
2. M&A بين Disney وLucasfilm (2012) – البداية كانت رسمية مبنية على مصداقية مالية وملكية فكرية، ما سهّل انسياب الصفقة بسلاسة
***
ارفع السقف… ثم فاوض
“من لا يطْمح لنيل القمم، لن يرى مجداً في القيعان.”
نيتشه
عندما تضع لنفسك أهدافاً طموحةً جدا؛ً أي حيثما ترفع السقف التفاوضي؛ فإن ذلك يجعلك تحقق أفضل النتائج، فإنك لن تحقق الأهداف الطموحة دون أن تكون أقوى المفاوضين.
اجعل هدفك طموحاً، وافرض سقفاً تفاوضياً عالياً، حتى تصل لنتائج أفضل مما لو بدأت منخفضاً.
أمثلة سياسية/تاريخية
1. مفاوضات نيويورك بشأن حقوق الطيران (1944) – رفعت الولايات المتحدة سقف مطالبها لتضمن وصولها لمكاسب تتجاوز مطالبها الأولية.
2. اتفاق بريكسيل للبترول (1973) – منظمة OPEC رفعت سقفها، رغم المقاومة الغربية، لتصل لرفع أسعار مفاجئ للخام
أمثلة إدارية/تجارية
1. تسعير Airbnb للاستحواذ على خدمات صنّاع المنازل – رفعت سقف عروضها لتأمين سلسلة علاقات استراتيجية.
2. المفاوضات بين Amazon وHachette (2014) – فإن Amazon رفعت سقفها في شروط التوزيع الالكتروني لفرض شروط تنافسية تجعلها تربح أكبر حصة في السوق.
***
عندما يقدِّم لك … لن يخسر
لا تُشعر الطرف الآخر بأنه يخسر حتى إن فزت أنت بالجزء الأكبر من الصفقة وحصل هو على الجزء الأصغر منها. فأفضل المفاوضات التي تفضي إلى (رابح/رابح) لتتجنّب صراعاً قادماً. اشعره بأنه هو الفائز وأنه قد حقق شيئاً كبيراً؛ بمعنى أن ليس عليك أن تقوم بإهانة الطرف الآخر، أو تركه لشعوره بالإهانة بما قدّمه، بل ينبغي أن تتصرف معه بإشعاره بقيمة ما يُقدِّم.
لا تشعر الآخر بأنه خسر؛ حتى لو نلت الجزء الأكبر، اجعله يشعر بأنه فاز لنبقي على روح رابح/رابح.
أمثلة تاريخية
1. اتفاق القسطنطينية (1453) – السلطان محمد الفاتح رغم انتصاره، جعل الروم الشرقيين يحتفظون ببعض التقاليد لضمان تعاونهم.
2. في اتفاقات مجلس فرساي (1919) – الحلفاء حاولوا أن يُشعروا ألمانيا بأنها لم تُهزم بالكامل، رغم شروط تعويض قاسية. ولكن الواقع أنهم اهانوا الأمة الألمانية وهذا مما سبب الحرب العالمية الثانية رغم محاولة إقناع ألمانيا بأنها لم تهزم لأن إهانة الأمة الألمانية كانت واضحة.
أمثلة إدارية/تجارية
1. پروكتر آند غامبل عند فصل المنتجات والشركة – حافظوا على شعور المساهمين بأن لديهم جزء مميز من القيمة، رغم عملية إعادة الهيكلة.
2. شركتا Renault وNissan – عقدا الاتفاقات بتوازن يجعل كل شركة تشعر بأنها فازت بحصة مهمة، لتفادي الهشاشة المستقبلية.
***
أعطِه بقوة… وليشعر بعظمة ما أخذ
“إعطاؤك قيمة، ولو رمزية، يُعلِّم الآخر كيف يحترمك أكثر.”
جان بول سارتر.
تذكر أن أغلب الناس يحترمون المفاوضين الأقوياء. وعندما تكون قوياً سيشعر الطرف الآخر بالفخر عندما يُحقق صفقة مقبولة معك حتى وإن حصل على جزء صغير. المهم أن تعطي بلا منَيّة وأن تُشعر مفاوضك بأنه يأخذ شيئاً مهماً وأنه محترم.
أمثلة سياسية/تاريخية
إطلاق بريطانيا بعض الأراضٍ لنقل السكان في نيوزيلندا (1990s) – كأعطيات رمزية لاسترضاء السكان الأصليين رغم الاحتفاظ بالمكاسب الكبرى.
أمثلة إدارية/تجارية
1. Cisco وMuleSoft (2018) – بعد الاستحواذ قدمت Cisco للحفاظ على قوة الفريق التنفيذي بعض الأدوار القيادية الرمزية.
2. شركات تقنية عند توظيف مؤسسين ناشئين كنوع من الإعطاء الرمزي – تمنحهم مناصب رسمية لإبراز قيمة ما جلبوه رغم أنها أقل مساهمة مالية.
***
إنهاء الحروب… قيمة
حاول استخدام قاعدة الطبيعة البشرية التي تقول إن أغلب الناس تميل إلى تجنب النزاعات والخلافات، وأنهم يملّون الحروب الطويلة. لهذا أشعر مفاوضك كم أنه سيكون قد حقق شيئا مهماً بل واستثنائياً لمجرد أنه تجنب النزاع أو أوقفه وأنهى الصراع.
السلام يُحسب قبل الحرب، ولا ينتظر بعد اندلاعها.”
توماس هوبز
أمثلة من التاريخ السياسي التفاوضي
1. اتفاق سلام لاهاي (1899) – قيمته لم تكن فقط وقف الحرب، بل التأسيس لمعاهدة أولمبية دولية.
2. اتفاقية الاتحاد الأوروبي (1992) – لإنهاء حالة الحرب الباردة هو أكبر ربح سياسي ومعنوي لأوروبا.
3. وقف إطلاق النار بين كولومبيا والفارك (2016) – السلام هو الإنجاز الذي شُعر به، أكثر من الأهداف السياسية
أمثلة تجارية
1. الاندماج بين Microsoft وLinkedIn (2016) – تم فيه التجنب الحاد للمنافسة المفاجئة مما خلق انطباع بالسلام والتحالف الاستراتيجي.
2. اتفاقية استحقاق المساهمة المفتوحة في البرمجيات – عندما تتخلى شركة ما عن حقوقها بشكل مشروط، يوفّر ذلك شعورًا بإنهاء الخصومة أمام مجتمع البرمجيات المفتوحة
***
قدّم له حبّ الحياة… مكافأة
أفضل نتيجة يمكن أن يحصلها مفاوض أمامك هو أنه أنهى الصراع؛ لذلك عليك أن تعطيه شيئاً يريحه نفسياً جراء إنهاء الصراع، كالشعور بالاستقرار أو ضمان حب الحياة (Biophylia). والتركيز دائما على تجنب الموت.اذ يحكم السلوك البشري نفسيّاً حب الحياة وحب الموت، والبشر عندما لا تجد إلى حب الحياة طريقاً تختار الموت لها وللآخرين. ولهذا حببِّه بالحياة.
“الناس لا يعيشون بما يأخذونه، بل بما يشعرون أنهم يملكون.”
أميل دوركايم
أمثلة تاريخية
1. مشروع مارشال بعد الحرب العالمية الثانية (1948) – منح أوروبا الغربية “حب الحياة” بالتماسك الاقتصادي.
2. معاهدة السلام بين الإمارات وعُمان (1971) – أعطت استقراراً سياسياً لشبه الجزيرة. حيث تم تغليب حب الحياة.
3. التحالفات الأوروبية ما بعد الحرب الباردة – وذلك جرى ببث الأمن النفسي للدول الصغيرة ضد التهديدات، تم تثبيت النظام الأوروبي.
أمثلة تجارية
1. ضمانات ما بعد الدمج (Post-merger guarantees) – يمنح شريك الاستحواذ أمان ضم أعضاء فريق المشروع إلى الهيكل الإداري.
2. خطط اشتراك مجانية للفترة التجريبية الطويلة – تمنح المستخدمين شعورًا بالاستقرار لفترة طويلة قبل الالتزام المالي.
***
هدفان ظاهر … وباطن
“كل هدف ظاهري يظلل غرضًا أعمق في القلب.”
إيمانويل كان
نعم، عليك نفسيا أن تهيئ نفسك لأهداف طموحة، ولكن عليك في عمق ذاتك أن تضع أهدافاً معقولة لتصل إليها؛ فأنت لن تأخذ كل شيء والمفاوضات الناجحة هي التي تعترف للطرف الآخر بحقوق معقولة.
حدد هدفك العلني والأيديولوجي، وضع خلفه هدفًا أقرب إلى المنطق الواقعي داخل نفسك.
أمثلة سياسية:
حركة الاتحاد الأفريقي – الهدف الظاهر الوحدة، والباطن بناء مؤسسات سياسية فعالة.
قمة المناخ (COP) – المعلن إنقاذ البيئة، لكن الهدف الباطن هو إعادة توزيع التقنية والاقتصاد.
أمثلة تجارية
1. Google أثناء مفاوضات استحواذ على شركات – تظهر كهدف تقني، لكنها في باطنها تتفاوض من أجل المحتوى وحقوق البيانات.
2. الشركات الناشئة عند جذب المستثمرين – تظهر أن الهدف كابتكار، لكن باطنياً يبحثون عن زيادة التمويل والنمو السريع.
***
الفرق بين ما يقول… والكرامة الشخصيّة
افصل بين ما يقوله مُفاوضك ويطالب به ، وبين استفزازاته وشخصك. وتذكر أنه يفاوضك على موضوع وليس على شخصك أو كرامتك.
***
أدخله الحلبة لينشغل بنفسه
دع الطرف الآخر يشعر أنه مشارك فعلي في المعركة التفاوضية، فينغمس في التفاصيل ويبتعد عن ملاحظة الصورة الكلية أو نواياك الأبعد.
“إشغال العدو بالحركات الصغرى هو فوزك بالحرب قبل أن تبدأ.”
صن تزو
أمثلة سياسية
1. اتفاقية كامب ديفيد (1978) – انشغل السادات وبيغن بالتفاصيل الإجرائية، بينما كان الهدف الأميركي الكبير هو كسر الجبهة العربية الواحدة أو المشتركة.
2. مفاوضات سايكس بيكو (1916) – أُشغلت الأطراف الصغيرة بالمناطق، بينما كانت بريطانيا وفرنسا تضعان خرائط النفوذ الكبرى.
3. مؤتمر فرساي (1919) – القوى الصغيرة شاركت شكلياً، بينما القرارات الكبرى صاغتها القوى العظمى.
أمثلة إدارية وتجارية
1. عند إشغال موظفين بالموازنات والتقارير، بينما تُقرّ خطط الهيكلة من فوقهم دون ممانعة.
2. تفاوض الشركات الكبرى مع موردين صغار – يُغرقون المورد في المواصفات، ليقبل بأسعار أقل دون إدراك.
د. عماد فوزي شُعيبي
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.