‏رسائل إلى القادة والسياسيين ‏فن التفاوض

6

الحلقة 22

د. عماد فوزي شُعيبي

‏نتابع عرض الرسائل لكبار القادة السياسيين والإداريين وذلك من كتابنا القواعد النفسية للسلطة بعد التعديل.

مرونتك …انتهت في أول عرض

“كل تنازل ليس مدروسًا هو علامة على التعلق لا على القوة.”

– آلان دو بوتون

قدّم تنازلات  صغيرة قدر الإمكان عندما تُطالب بها بإلحاح، ولكن أوحِ  نفسياً لـ (لا وعيك) بأن مرونتك قد وصلت إلى نهايتها؛ بمعنى أن تجعل تنازلاتك تتدحرج لتصبح أقرب فاقرب إلى التناهي نحو الصفر، ولكن لا تتقمص هذا الدور طويلاً، فأنت مطالب بأن تقدم شيئاً ما في نهاية المطاف… المهم أن يكون أقل قدر ممكن من ما يقدم     

المفاوض الذكي لا يُظهر مرونةً طويلة النفس. فعلى المستوى اللاواعي، إن أبقيت مرونتك ممتدة دون سقف، اعتُبرت ساذجًا أو ضعيف الإرادة. يجب أن توحي للطرف الآخر أن حدود مرونتك ضيقة ومحدودة وأن ما قدمته هو أقصى ما يمكن أن تقدمه. هذا يولد ضغطًا مضادًا عليه، ويقربك من انتزاع ما تريد.

نقطة نفسية دقيقة:

المفاوض ليس ممثلاً يُجيد “لعب” دور المتشدد فقط، بل يجب أن “يعيش داخلياً” هذا الموقف حتى يتصرف بناء عليه بلا تردد أو ارتباك، وهنا الفارق بين التكتيك والعمق.

أمثلة سياسية تفاوضية:

  1. هنري كيسنجر في مفاوضات فك الاشتباك (1974): قدم عرضاً واحداً للسوريين ثم أوحى بأنه بلغ حده، فمارس الضغط بالتوقيت (قبل زيارة نكسون لدمشق) ليُنتزع الاتفاق.
  2. معاهدة فرساي: الحلفاء قدموا عرضًا واحدًا لألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى ولم يتراجعوا عنه، رغم مفاوضات طويلة. فهم أن الألمان ليس أمامهم خيارات.
  3. أردوغان في مفاوضات السويد للانضمام للناتو (2023): قدّم شروطه (تسليم مطلوبين، ووقف دعم الأكراد) وقال بوضوح إنها “الحد النهائي”، فحصل على تنازلات أوروبية.

أمثلة إدارية وتجارية:

  1. شركة Adobe عند بيع Creative Suite: في مفاوضات البيع المؤسسي، تعلن عروضها مباشرة على أنها “غير قابلة للتفاوض” وتستعمل “نفاذ المرونة” كأداة تسويق ضغط.
  2. Toyota في مفاوضات أسعار مع الموردين: تقدم ما تسميه “عرض الهامش الأقرب للصفر” في البداية، وتُشعر الطرف الآخر أن أي ضغط إضافي سيُخرج الصفقة من الجدوى الاقتصادية

 التحليل التطبيقي:

  • في عالم المفاوضات، التنازلات المبكرة تعني انفتاح الباب لمزيد من الاستنزاف.
  • الأفضل أن تبدأ بموقف يبدو فيه أنك قدمت أقصى ما تستطيع، ثم إن تطلب الأمر تنازلاً لاحقًا، فليكن صغيرًا جدًا وبثمن كبير.
  • كن واضحاً في لحظاتك الأولى، كي لا يفهم خصمك أنك مستعد “للتراجع بلا نهاية”

***

الصمت … فضيلة

“الصمت هو الصرخة الأقوى.” – فريدريش نيتشه

الصمت تكتيك عظيم وهو من الزاوية النفسية التفاوضية شيء غير مريح ولكنه أمر مهذب وليس هنالك شيء أكثر تهذيباً للضغط عليه. فقط اجلس بصمت ووجهك يعكس أنك تفكر فيما يعرضه الطرف الآخر فيتفانى بصمتك هذا لجعل ما يقدمه أكثر إغراء بتقديم المزيد منه، ولكن ليس عليك أن تظهر القبول لأنك يجب أن تشعره بأن قبولك بما قدمه هو أمر جاء بعد طول عناء.

الصمت أحد أعظم أسلحة التفاوض. لأن الإنسان بطبعه لا يحتمل الفراغ السمعي. فإذا سكتّ بعد عرض الطرف الآخر، تولد داخله رغبة لاواعية في ملء الفراغ بـ تنازل إضافي أو توضيح يزيد من قيمة العرض.

 البعد النفسي العميق: الصمت يخلق توازناً في “القوة غير المنطوقة”. أي أن من يصمت يمتلك، تلقائيًا، سلطة التأمل، والسلطة تخلق هيبة تُخيف وتُربك.

أمثلة سياسية تفاوضية:

  1. ديفيد بن غوريون كان يشتهر بالصمت الطويل في الاجتماعات التفاوضية ثم يعقب بملاحظة موجزة تُربك خصومه.
  2. صدام حسين في مفاوضاته مع الاتحاد السوفيتي قبيل الحرب الإيرانية – ظل صامتاً عند عرضهم الدعم، ثم فاجأهم بطلب أكبر، فوافقوا.
  3. كيسنجر مجدداً: في زيارته للصين 1971، صمت لدقائق عند عرض ماو تسي تونغ لرؤية بلاده، ثم علق تعليقًا صغيرًا جعله يبدو متمكنًا من زمام المبادرة.

أمثلة إدارية وتجارية:

  1. ستيف بالمر (مايكروسوفت) كان يستخدم الصمت الطويل في المفاوضات مع IBM ليبدو كأنه يعيد الحسابات، مما أجبر الطرف الآخر على إعادة تقييم موقفه.
  2. إيلون ماسك في مفاوضاته مع Twitter – ترك المفاوضات تجري بصمت حين ظهرت فجوات قانونية، مما جعل Twitter يندفع للتسوية.

التحليل التطبيقي:

  • لا تسارع إلى الرد أو التفسير.
  • دع عرض خصمك يتردد في الهواء.
  • هذا الفراغ هو “وقت الخضوع اللاواعي” الذي تدفع فيه خصمك لإعادة التقييم النفسي.
  • لا تتحدث لتُشعره بالاطمئنان. بل اجعل صمتك قلقًا له

***

التنازلات في لحظة الحقيقة

“كل لحظة تراجع من الآخر، فرصة للقبض على التوازن.” – ميشيل فوكو

لا  يجب أن نعطي شيئا دون مقابل أبداً. وحتى لو كنا مستعدين لأن تقدم ذلك، فلنطلب تنازلات، ولكن في التوقيت المناسب عندما نشعر بأن خصمنا قد بدأ باللين، وهنا لنستثمر بسرعة لحظة ليونته، إنها لحظة الحقيقة.

أخطر خطأ تفاوضي هو أن تعطي دون مقابل.

والأخطر أن تعطي في الوقت الخطأ.

التنازل ليس ضعفًا إذا قُدِّم:

  • عندما يلين الخصم.
  • مقابل مكسب ملموس أو رمزي.

ما إن تلاحظ أن خصمك بدأ يتراجع أو يتنفس بارتياح، فهذه “لحظة الحقيقة” التي يجب أن تستغلها فورًا: اعرض تنازلك المحدود واطلب مقابله. لا تُؤجل ولا تتردد.

أمثلة تفاوضية سياسية:

  1. اتفاقية دايتون: استُغلت ليونة الأطراف بعد التعب من الحرب، وقدمت بعض التنازلات لتثبيت وقف النار مقابل اعترافات دستورية.
  2. اتفاقية أوسلو: عندما بدأ الطرف الفلسطيني بإظهار رغبة فعلية للحل، قدم الإسرائيليون بعض التنازلات الرمزية (مثل دخول رموز السلطة الفلسطينية).
  3. المفاوضات بين مصر وإسرائيل: السادات أبدى تنازلًا محدودًا مقابل انسحاب كامل من سيناء، ولكن بعد رصد لحظة استعداد أمريكي–إسرائيلي للصفقة.

أمثلة تفاوضية إدارية:

  1. Google عند التفاوض على صفقات براءات اختراع: قدّمت تنازلات بسيطة بعد رصد استعداد الطرف الآخر لإغلاق الصفقة.
  2. Airbnb في التفاوض مع الهيئات الحكومية: استغلت لحظة الاستعداد الحكومي للتعاون في أعقاب جائحة كورونا لتقديم تنازلات مقابل تنظيمات أخف.

تحليل تطبيقي:

راقب خصمك جيدًا. هناك لحظة نفسية يلين فيها – نظرة، تنهيدة، تخلّي عن عدوانية – وهي لحظة الذهب. بادر فورًا بتقديم تنازل مخطط مسبقًا واطلب مقابله. لا تنتظر الجولة القادمة. “لحظة الحقيقة” قد لا تتكرر.

د. عماد فوزي شُعيبي

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.