رسائل الى كبار القادة السياسيين قواعد المفاوضات 4
الحلقة 23
د. عماد فوزي شُعيبي
نواصل سرد النصائح التي تقدم إلى كبار القادة وكبار الإداريين وذلك بلا اعتماد على كتابنا القواعد النفسية للسلطة في تعديلاته الجديدة.
هنا نتابع قواعد المفاوضات:
المفاوض مُستمع … لا ثرثاراً
سقراط: “تكلّم حتى أراك”
“الاستماع هو أكثر أدوات السلطة خفاءً.” – ميشيل فوكو
أسوأ أنواع المفاوضين الثرثارون؛ لأنهم سيفقدون السيطرة على ما يقولون. فالمفاوض الجيد هو مستمع جيد لا يستعجل الكلام ويتداخل مع من يفاوضه بين الحين والآخر للاستفسار لجعله يتكلم أكثر.
أمثلة سياسية وتفاوضية:
جيمي كارتر في مفاوضات كامب ديفيد 1978، كان مستمعًا للطرفين (السادات وبيغن)، وكان يُدوّن بصمت قبل أن يتدخل بوساطة تُراعي النقاط غير المعلنة.
في مفاوضات بريكست، اعتمد ميشيل بارنييه استراتيجية الاستماع والترقب ليكشف تناقضات البريطانيين في مواقفهم التفاوضية دون إبداء موقف مبكر
أمثلة إدارية:
مدير تسويق في شركة تقنية يستمع باهتمام لملاحظات عميل رئيسي حول شروط الخدمة، دون أن يقاطعه أو يبادر بالتبرير، ليبني عرضًا أكثر دقة لاحقاً.
رئيس قسم الموارد البشرية يتعامل مع موظف غاضب بصمتٍ محسوب، ما يتيح للموظف إفراغ شحنته ثم فتح باب المعالجة العقلانية دون تصعيد
أمثلة تفاوضية إدارية من شركات معروفة:
ستيف جوبز في مفاوضاته مع ديزني (Pixar-Disney)
في مفاوضات بيع “بيكسار”، ستيف جوبز استمع طويلاً لمخاوف ديزني من فقدان السيطرة، ثم قدّم صيغة تجنبهم هذا الشعور، ما جعل الصفقة تُوقَّع مع احتفاظ Pixar بهويتها.
مفاوضات Google للاستحواذ على YouTube (2006)
فريق Google استمع أكثر مما تكلم، وفهم قلق YouTube من فقدان حرية الابتكار. هذا ساعد Google على تقديم عرض حافظ على استقلالية YouTube بعد الاستحواذ.
التحليل التطبيقي:
الاستماع الفعال في التفاوض ليس ضعفاً، بل هو تكتيك ذهني ذكي.
فحين تصمت وتترك الآخر يتحدث، فإنه:
يكشف نواياه، وأولوياته، ومخاوفه.
يُخطئ أحياناً في الإفصاح الزائد أو التناقض، مما يمنحك فرصة للرد لاحقاً.
يشعر بارتياح للحديث، مما يُضعف حذره ويُقوي موقعك دون أن تبذل جهداً مباشراً.
الصمت هنا ليس حياداً، بل هو قوة ناعمة واستراتيجية احتواء.
***
لاتثق… ودعه يثقُ
فريدريك نيتشه:
“من يثق بسرعة، غالباً ما يُخدع ببطء.”
“من يُعطي ثقته بسرعة، يُعطي خصمه سلاحه.”
لا تثق بالطرف الآخر، فقاعدتك أن الآخر مُخادع، حتى ولو كان صادقاً، فالصدق التفاوضي ظرفيّ.ولكن اطلب منه دائماً أن يجعلك تثق به.
لا تبدأ المفاوضات بثقة عمياء، بل ضع احتمال الخداع كقاعدة أولى. ولكن اجعل الطرف الآخر يسعى لكسب ثقتك ليكشف أوراقه ويُظهر حسن نواياه، فينقلب ميزان الضغط لصالحك.
أمثلة سياسية أو تفاوضية
أمثلة تفاوضية سياسية:
في مفاوضات السلام بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة، تجنبت واشنطن الوثوق بوعود بيونغ يانغ، وطالبت بخطوات ملموسة قبل تقديم أي تنازلات.
الاتحاد السوفيتي وألمانيا النازية – اتفاق مولوتوف-ريبنتروب (1939)
رغم توقيع اتفاق عدم اعتداء، لم يثق ستالين بهتلر، واحتفظ بحسابات استراتيجية. بينما صدّق هتلر أنّ الاتفاق سيمنع أي رد سوفيتي، حتى صُدم بالغزو العكسي بعد عملية بارباروسا.
قمة ترامب – كيم جونغ أون (سنغافورة 2018)
ترامب حاول بناء ثقة بسرعة زائدة، بينما كوريا الشمالية لم تعطِ شيئًا جوهريًا، وحافظت على تحفظاتها. النتيجة: فشل القمم اللاحقة، إذ لم يكن هناك “توازن في الحذر”.
أمثلة إدارية:
أمثلة تفاوضية إدارية – من شركات كبرى:
Apple:
عند اختيار موردين جدد، تطلب الشركة تاريخاً موثقاً في الالتزام بالجودة وسجلات تسليم دقيقة قبل توقيع العقود.
Amazon:
لا تسمح للموردين الجدد بالدخول إلى نظام Prime Vendor Central إلا بعد سلسلة تقييمات صارمة للثقة والفعالية التشغيلية.
Tesla:
تفاوضت مع شركات بطاريات صينية بحذر، وطالبتهم بإثباتات تقنية وفحوص مطابقة صارمة قبل توقيع الشراكات طويلة الأمد.
أمثلة تفاوضية إدارية من شركات معروفة:
مفاوضات Facebook مع WhatsApp (2014)
مارك زوكربيرغ لم يمنح ثقته بسرعة، بل اشترط استمرار عمل WhatsApp باستقلالية. أما مؤسسو WhatsApp فوثقوا بوعود “لا للإعلانات”، وهي التي كُسرت لاحقاً، ما دفع المؤسسين للاستقالة.
مفاوضات IBM مع Red Hat (2018)
IBM طلبت ضمانات فنية وتجارية كثيرة قبل الشراء، بينما عملت Red Hat على كسب ثقة IBM بجديتها في الحفاظ على كيانها كمنصة مفتوحة، ما ساهم في نجاح الدمج.
التحليل التطبيقي:
افتراض الخداع ليس عدواناً بل آلية دفاع تفاوضية. إنه لا يفترض سوء النية، بل يحتاط لها. حين تجعل الطرف الآخر يسعى لكسب ثقتك، فأنت تُشعره بضرورة إثبات مصداقيته، فتُبقي زمام المبادرة في يدك. هذا يضعك في موقع “المُقيّم”، ويضعه هو في موقع “المُقنع”، مما يمنحك ميزة تفاوضية نفسية وهيكلية دون أن تبدو عدائياً
***
لا تحطّ من قدره!
“احترام الآخرين هو أساس الاحترام الذاتي.” – إيمانويل كانت
لا تظهر عدم الاحترام ولا تحط من شأن خصمك ولا تكن وقحاً. فالمفاوضات هي علاقة احترام متبادلة بين الأطراف. ولا تخن الثقة لأن خيانة الثقة سلسلةٌ تُدَمّر كل ما هو لاحق.
المفاوضات تقوم على احترام متبادل. التقليل من خصمك أو إظهار الازدراء أو الوقاحة يُفقد العملية مصداقيتها وقد يؤدي لتصعيد العداء وفقدان فرص الحل. حتى إن كان الخصم مخادعًا أو ضعيفًا، لا تظهر ذلك بشكل مباشر، فالحفاظ على الكرامة المتبادلة يفتح المجال لتفاوض ناضج ومثمر.
أمثلة تفاوضية سياسية:
محادثات السلام بين نيلسون مانديلا والحكومة البيضاء في جنوب أفريقيا
حتى في أوقات التوتر القصوى، التزم الطرفان باحترام الآخر على المستوى الشخصي، ما ساعد على انتقال سلس نسبيًا إلى نظام ديمقراطي.
مفاوضات 6 أيام بين إسرائيل والفلسطينيين
عندما قام بعض القادة الإسرائيليين باستهزاء بالفلسطينيين، تدهورت المفاوضات، وزاد العنف، مما يؤكد أهمية الاحترام المتبادل.
أمثلة تفاوضية إدارية من شركات معروفة:
مفاوضات مايكروسوفت مع نوكيا (2013)
رغم الصراعات التقنية والتجارية، حافظ الطرفان على مستوى محترم من الحوار، مما سهل إتمام الصفقة.
اتفاقية الاندماج بين Disney و21st Century Fox (2017)
الحفاظ على الاحترام بين الفرق التنفيذية في الشركتين ساعد في تخطي الخلافات المتعلقة بالسيطرة والتكاليف.
تحليل تطبيقي:
عندما تحترم خصمك، تخلق بيئة تفاوضية صحية تسمح بفتح قنوات اتصال أكثر فاعلية. إظهار الاحترام لا يعني الضعف بل استراتيجية ذكية لتجنب تصعيد الصراعات، وبناء جسور ثقة تؤدي إلى حلول مشتركة. قد يؤدي تحقير الخصم إلى تدمير الفرص وتعزيز المواقف المتصلبة.
د. عماد فوزي شُعيبي
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.