رسائل يومية الى القادة السياسيين (قواعد في السياسة): احذر من الغرق (الحلقة الثانية)
د. عماد فوزي شُعيبي
نتابع ما قلناه من أن بعض القادة لا يُهيئ لهم الوقت للقراءة في تاريخ ومهارات صنع الفعل السياسي. لذا هنا سنعرض على حلقات بعضاً من خبرة السياسة وممارساتها، استجابة لما تقتضيه القاعدة الشهيرة: (وحدهم الموتى هم الذين لا يتعلمون)، وسنقدم هنا بعضاً من خبرتنا التي نسجنا بعضها في كتابنا المخصص للقادة (القواعد النفسية للسلطة):
طالما أننا نتكلم عن أهمية لغة الواقع، فإن بعض السياسيين يقع في مأزق ندعوه التكلفة المُغرِقة (Sunk Cost Fallacy):
ومعنى هذا؛ يكون عندما ننشئ مشروعاً بكلفة كبيرة ونجد أنه خاسر، ونتابع به فتتضاعف الخسارة بسبب عناد شعورنا أننا تكلفنا كثيراً، كما حدث مع بريطانيا وفرنسا اللتين اشتركتا في مشروع طائرة أسرع من الصوت هي الكونكورد منذ عام 1956 وكلف حتى عام 1963 1.5 مليار جنية استرليني ليكتشفا أن مشروع الطائرة غير جدٍ اقتصاديًّا، ولكن عناد التكلفة المُغرقة دفعتهما للاستمرار، فزادت التكليف إلى أن انتهى المشروع كلياً بخسارات متراكمة.
ففي الاقتصاد مثلاً، إذا كان من المتوقع في الأصل أن تبلغ تكلفة مصنع جديد 100 مليون دولار، وأن يحقق قيمة 120 مليون دولار، وبعد إنفاق 30 مليون دولار عليه، انخفضت القيمة المتوقعة من 120 إلى 65 مليون دولار، فيجب على الشركة التخلي عن المشروع بدلاً من إنفاق 70 مليون دولار إضافية لإكماله.
من أمثلتها الحياتية وفي العمل السياسي أيضاً تمسكك بعمل أمضيت فيه سنين طوال، رغم أن لا مستقبل لك فيه، لمجرد أنك بذلت فيه جهودًا.هذه هي مغالطة التكلفة الغارقة ، ويمكن وصف هذا السلوك بأنه “إهدار الجهد الجيد على الواقع السيئ”، ب رفض الاستسلام لما يمكن وصفه بـ “التخلي عن الخسائر”.
في العمل العسكري أمثلة على الغرق بالتكلفة، كأن يُقاتل جيش دفاعاً عن موقع تكلف عليه الكثير رغم أن ميزان القوى يشي بالهزيمة وتكبد الخسائر الأكبر لاحقاً، فتم ابتكار قاعدة أن الدفاع عن مكان بميزان قوى متدهور لصالح العدو مكلف أكثر بكثير من الانسحاب منه ومعاودة استعادته عندما تتبدل موازين القوى. ولهذا مثلاً نصح قائد الجيش الروسي (الماريشال كوتوزوف) إبان هجوم قوات نابليون، بالانسحاب من موسكو وحرقها، لأن مقاتلته كانت ستُكلِف دمار الجيش الروسي، فحافظ عليه بالخروج من موسكو، ولما جاء الثلج الذي لايطيقه الفرنسيون كرّ عليهم الجيش الروسي وهزمهم.
والعبرة هنا أن التكلفة الغالية مالياً ومعنوياً عليك، لايجب أن تجعلك تخسر الأضعاف بعناد الاستمرار فيها.
وفي هذا يُكتب:
في حرب فيتنام، كان الأمريكيون مقتنعين بتفوقهم العسكري. وشعروا بأنهم لا يُقهرون بعد أن انتصروا في حرب عالمية طويلة وصعبة على الألمان واليابانيين.
تفوقهم التكنولوجي على الفيتكونغ كان هائلًا، وحجم قوتهم وقدرتهم التدميرية فاق الفيتناميين بأشواط. (لكنهم كانوا أسرى التكلفة المُغرقة بسبب استمرار الحرب لفترة طويلة تكلفوا عليها الكثير)، فظلوا يعتقدون أنهم على بعد خطوة من النصر وأنهم يحتاجون فقط إلى المزيد من القوة، والمزيد من إغراق الجبهة بالجنود، والمزيد من الوقت، و المزيد من الأراضي. واستمرت التكاليف المُغرقة.
في مثال آخر: رغم أن الرئيس ليندون جونسون والجنرال ماكنمارا فهما لاحقًا حجم المشكلة، لكنهما استمرا بالكذب على الرأي العام المحلي. لأنهم كانوا يكذبون على أنفسهم. والتكلفة أغرقتهم. لأنهم كانوا يشعرون أنهم قد تكلفوا تكلفة كبيرة في تلك الحرب ولا يريدون الخروج منها بدون انتصار، وكانت النتيجة مزيداً من التكلفة التي أغرقتهم.
وهكذا، بينما كانوا يتوهّمون أنهم “على بُعد خطوة من النصر”، سارت الولايات المتحدة خطوة تلو الأخرى نحو مستنقع عميق غاصت فيه حتى النهاية. واحتاجت إلى مفاوضات طويلة للخروج من تلك الحرب.
وهنالك أمثلة كثيرة على دخول حروب وعدم الخروج منها لفترة طويلة بسبب التكلفة المغرِقة.
هنا على القائد السياسي أن يختار بين أن يخفض خساراته وبين أن يغرق في المزيد من الخسارات، ويسير وراء سراب ويورط نفسه (بمقامرة) على حساب بلده بأنه سوف يربح، كي لا يعترف بأنه قد خسر. فهو يميل إلى المبالغة في تقدير فرصه في الربح والتقليل من احتمالات خسارته، وهذا هو السراب بعينه!
ولا بد لنا من التنويه هنا إلى أن الحروب التي تطول هي الحروب الخاسرة، مهما كانت نتائجها، لأن الخسارات تتراكم. ويمكن ذكر العديد من الأمثلة على حروب طويلة الأمد كانت نتائجها كارثية كما حدث في حرب (داحس والغبراء) ومع هتلر مثلاً في الحرب العالمية الثانية، وفي الحرب العراقية الإيرانية وفي كثير من الحروب المعمّرة، وخاصة الحروب الأهلية. و لعل الاستمرار في ترشيح بايدن للانتخابات قد سبب خسارة، حاول الحزب الديمقراطي تجنبها بتجنب التكلفة المغرقة ، لكنه كان قد تأخر! لأن التكلفة كانت قد مرت!
والدرس المستفاد هنا: يجب الانتباه إلى الوقائع على الأرض، فإذا كانت تشي بالخسارة فإن (تقليل الخسارات هو ربح). والمهم أن لا يُدخل السياسي اعتباراته الشخصية في قراره وإلا تأخذه العزة بالإثم ويستمر في الخسارات.
ويؤكد علم النفس أن البشر عندما يشعرون بالتوتر، يكونون أكثر تحفّزًا للاستثمار في مشاريع فاشلة بدلًا من اتباع سلوك التنصّل من الخسارات.
ولأن الموضوع لا يمكن أن يكون شخصياً، طالما السياسي مسؤول عن دولة وعن شعب وعن موارد. فكل ما سبق أهم من شخصه! ومن انفعالاته وأسرها له، إن أراد أن يكون رجل دولة حقيقي، وأن يدخل التاريخ لا أن يخرج منه.
والحقيقة أن هناك عاملين رئيسيين يُميّزان هذا التحيز القاتل؛ الأول هو تقدير مُفرط في التفاؤل لاحتمالية النجاح. أما العامل الثاني فهو المسؤولية الشخصية: فعندما تكون مسؤولاً شخصيًا، يصعب عليك الاعتراف بخطئك فتغرق وتغرق من أنت مسؤول عنهم.
القاعدة هنا تقول: الشيء الوحيد المهم هو الالتفات إلى العواقب المستقبلية. أما أخطاء الماضي فهي غير ذات صلة، فأيُّ تكاليف تكبدت قبل اتخاذ القرار تكون قد تُكُبِدت بالفعل بغض النظر عن القرار المتخذ لاحقاً، وهو الأهم. إن مجرد تحملك تكاليف باهظة في عملك وقراراتك، لا يعني بالضرورة غرقك مع السفينة. بهذه الاستراتيجيات، يمكنك نسيان الماضي، وأن لا تكون أسيراً له؛ لأن عليك اتخاذ قرارات بناءً على ما هو الأفضل لك ولبلدك وللمستقبل.
إن الوقوع في مغالطة التكلفة المُغرقة تجعلك أسوأ عدو لنفسك ولبلدك، ولكن مع بعض الوعي الذاتي والجرأة على الاعتراف بالخطأ، يمكنك أن تكون مفتاح نجاح بلدك.
هذا هو الفرق بين قائد مسؤول يدخل التاريخ؛ لأنه يعرف كيف ينسحب في الوقت المناسب ويتحمل المسؤولية ولا يغرق بلاده وشعبه، وبين آخر يتورط ويُورط بلاده!
د. عماد فوزي شُعيبي
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.