ريتشارد هاس: الدّولة الفلسطينيّة مصلحة إسرائيليّة وأميركيّة

4

بقلم إيمان شمص

«أساس ميديا»

يعتقد الدبلوماسي الأميركي المخضرم ريتشارد هاس أنّ فرصة حلّ الدولتين لا تزال قائمة، وأنّ من مصلحة إسرائيل والولايات المتّحدة على حدّ سواء إقامة دولة فلسطينية قبل أن تختفي هذه الإمكانيّة إلى الأبد.

يوضح في مقال له في مجلّة “فورين أفيرز” أنّ “إسرائيل الآن في بيئة أمنيّة مؤاتية، لكنّ هذه البيئة لا يمكن أن تدوم إلى الأبد، وليس مضموناً الدعم الأميركي والأوروبي الطويل الأمد، خاصّة إذا بدأ المزيد من الأميركيّين والأوروبيّين ينظرون إليها كدولة منبوذة تنكر حقوق الآخرين. لذا هي اليوم أمام خيارين: إمّا أن تبذل جهداً صادقاً من أجل التسوية والتعايش السلمي مع الفلسطينيّين، أو تخاطر بفقدان الدعم الدولي الذي تحتاج إليه من أجل رفاهيتها على المدى الطويل”.

بالنسبة لهاس الذي يُعدّ من أهمّ الخبراء الأميركيّين في مجال السياسة الخارجية، وكان شغل منصب كبير مستشاري الشرق الأوسط للرئيس جورج دبليو بوش ومدير السياسة والتخطيط في وزارة الخارجية الأميركية، يبقى حلّ الدولتين الأمل الأفضل لازدهار الإسرائيليّين وأمنهم على الرغم من كونه مرفوضاً من كثير منهم. فالمساهمة في إقامة دولة فلسطينية من شأنها أن تخدم إسرائيل بقدر ما تخدم الآخرين. وفي رأيه “سيكون من الأفضل للإسرائيليّين والفلسطينيّين على حدّ سواء وجود دولة مستقلّة ذات سيادة وقابلة للحياة، يسكنها الفلسطينيون ويديرونها بأنفسهم، لكن بشروط تمنعها من أن تُشكّل تهديداً أمنيّاً لإسرائيل”.

كيف يكون حلّ الدّولتين من مصلحة الطّرفين؟

يشير هاس إلى:

– أنّ الدولة الفلسطينية، بدلاً من أن تكون قاعدة للإرهاب، ستكون أكثر قدرةً على الحدّ منه بطرقٍ لا تستطيع قوّات الدفاع الإسرائيلية القيام بها. ذلك لأنّ الإرهابيّين يستطيعون الآن التصرّف بحصانةٍ شبه كاملة. إذ إنّهم غير مسؤولين عن أيّ أرض أو اقتصاد، وليس لديهم مواطنون يُحاسبونهم. في غياب دولة فلسطينية، تواجه إسرائيل حرباً لا نهاية لها. بينما ستواجه حكومة الدولة الفلسطينية العواقب العسكرية والاقتصادية لأيّ هجمات على إسرائيل. مثل هذا الواقع يُحفّز حكومةً مسؤولةً، لا تديرها “حماس”، على التصرّف بطرقٍ بنّاءة، مع توفير ملاذٍ لإسرائيل إذا ثبت عجز القادة الفلسطينيين أو عدم رغبتهم في الوفاء بالتزاماتهم الدولية.

– حلّ القضيّة الفلسطينية يُهيّئ لاستمرار وتوسيع نطاق اتّفاقات أبراهام.

– قيام دولة فلسطينية يعزّز استقرار جيران إسرائيل، وعلى رأسهم الأردن، لأنّ تلبية هذه الدعوة ستخفّف الضغط على النظام الملكي الأردنيّ، الذي سيواجه حالة من عدم الاستقرار الداخليّ في حال تدفّق الفلسطينيّين إلى البلاد وإخلالهم بتوازنها الديمغرافي والسياسي.

– تقليص أهميّة القضيّة الفلسطينية سيسمح للمؤسّسة الأمنيّة الوطنية الإسرائيلية بالتركيز على تهديدات أخرى ملحّة، وعلى رأسها التهديدات التي تشكّلها إيران.

– قيام دولة فلسطينية مستقلّة سيكون مفيداً لهويّة إسرائيل وتماسكها الداخلي. يوجد حوالي مليونَيْ مواطن عربي في إسرائيل، وقد يتجّه بعضهم نحو التطرّف إذا استمرّت إسرائيل في إحباط الطموحات السياسية الفلسطينية ومعاملة الفلسطينيّين بقسوة.

– الدولة الفلسطينية ستحرّر إسرائيل من خيارها بين أن تكون دولة ديمقراطيّة أو يهوديّة: فمنح خمسة ملايين فلسطينيّ حقوقاً متساوية سيهدّد الخيار الثاني، بينما حرمانهم من هذه الحقوق سيهدّد الخيار الأوّل. لكنّ كلّ المؤشّرات تشير إلى أنّ إسرائيل ستنكر عليهم هذه الحقوق، وهو توجّه لن يؤدّي إلّا إلى زيادة عزلتها الدولية.

– الظهور بموقف المنفتح تجاه دولة فلسطينيّة سيساعد إسرائيل على تجنّب أن تصبح منبوذة عالميّاً، ويقلّل من خطر العقوبات الاقتصادية الأوروبية، ويكبح جماح الاغتراب المتزايد للعديد من الأميركيّين اليهود الشباب، وهو توجّه قد يُعرّض الدعم العسكري الأميركي لإسرائيل للخطر. وقد يُقلّل انفتاح إسرائيل في هذا الشأن من معاداة الساميّة عالميّاً.

– الدعم المبدئيّ لقيام دولة فلسطينيّة سيوفّر لإسرائيل مخرجاً من غزّة واستعادة الرهائن الباقين.

المسار الدّبلوماسيّ

يرى هاس أنّ صياغة مسار نحو حلّ الدولتين هو شرط أساسيّ لاستبدال القوّات الأمنيّة الإسرائيلية بقوّة استقرار عربيّة تُفقد حركة “حماس” احتكارها شبه الكامل للادّعاء بأنّها الوحيدة القادرة على تحقيق دولة للشعب الفلسطيني. كما تعلّم البريطانيون في أيرلندا الشمالية، لا يمكن هزيمة الجماعات المتطرّفة بالقوّة العسكرية وحدها، بل يجب تهميشها سياسيّاً، من خلال توفير مسار دبلوماسي أكثر وعداً من العنف المستمرّ.

لكن في رأيه يجب أن يكون الهدف في المستقبل القريب الحفاظ على إمكانيّة دبلوماسيّة أكثر طموحاً، وتهيئة ظروف تمنح هذه الدبلوماسية فرصة للنجاح يوماً ما، وأن يكون لهذه السياسة بُعدان: أحدهما تجنّبيّ والآخر إبداعيّ.

البعد التّجنّبيّ

بالنسبة للبعد التجنّبيّ:

– يجب على الحكومات تجنّب الدعوة إلى تقرير مصير الفلسطينيّين، وإعادة صياغة اتّفاقات كامب ديفيد التي ساهمت واشنطن في التوسّط فيها بين مصر وإسرائيل عام 1978. إذ يجب أن يكون للفلسطينيّين الحقّ في المشاركة في تقرير مستقبلهم، لكن ليس إعلانه أو تقريره من جانب واحد، وأن يتمّ إنشاء دولة فلسطينيّة بالتزامن مع إسرائيل.

– يجب تجنّب إعلان جهات خارجية معنيّة، وتحديداً أستراليا وكندا وفرنسا والمملكة المتّحدة، نيّتها الاعتراف بدولة فلسطينيّة هذا الخريف إذا لم يكن هناك وقف لإطلاق النار في غزّة.

– يجب على الإسرائيليّين والفلسطينيّين التوصّل إلى تسوية، وعلى الفلسطينيين أن يستوعبوا أنّ دولة خاصّة بهم، إذا سمحت إسرائيل بذلك، لا يمكن للآخرين تحقيقها دون تنازلات من جانبهم.

– يجب أيضاً مقاومة الأحاديّة الإسرائيلية. وهنا مسؤوليّة الولايات المتّحدة. على إدارة ترامب أن توضح معارضتها لبناء مستوطنات جديدة وبؤر استيطانية جديدة وأيّ ضمّ للأراضي الفلسطينية. عليها أيضاً التعبير عن توقّعها احترام المستوطنين ووحدات جيش الدفاع الإسرائيلي لحقوق الإنسان الفلسطيني وحقوق الملكيّة.

ما قد يُعزّز هذا الموقف هو رسالة من واشنطن مفادها أنّ إسرائيل، في المستقبل، لن تتمكّن من الاعتماد على الولايات المتّحدة لاستخدام حقّ النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي لحمايتها من جميع العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية إذا تجاهلت التفضيلات الأميركية. ويمكن لواشنطن فرض رسوم جمركية أعلى على إسرائيل إذا استمرّت في تقويض ما بقي من احتمالات محدودة لقيام دولة فلسطينية. ومن الممكن للولايات المتّحدة أن تُميّز بين دعم أمن إسرائيل ودعم احتلالها وتوسّعها غير المحدود.

البعد الإبداعيّ

أمّا بالنسبة للبعد الإبداعي، يعتقد هاس أنّ على الولايات المتّحدة والدول الأوروبية والمملكة العربية السعودية والحكومات العربية الأخرى الضغط ليس فقط لإنهاء الحرب في غزّة واستبدال قوّات الاحتلال الإسرائيلي بقوّة استقرار عربية وفلسطينيّة، بل أيضاً طرح رؤية عامّة لعمليّة دبلوماسيّة أوسع نطاقاً توضح ما تتوقّعه من كلّ من الإسرائيليين والفلسطينيين، وما يمكن أن يتوقّعه الطرفان والاستعدادات لتشجيع العمليّة ودعم نتائجها.

يشمل ذلك تقديم ضمانات أمنيّة ومساعدات اقتصادية لإسرائيل للمساعدة في إعادة توطين المستوطنين، وتزويد الدولة الفلسطينية الجديدة بما تحتاج إليه للوفاء بالتزاماتها تجاه مواطنيها وإسرائيل.

يعتبر أنّ من شأن هذا أن يشجّع على ظهور قيادة فلسطينية أكثر اعتدالاً، تطمئن غالبيّة الإسرائيليين، وهو ما قد يشجّع بدوره على ظهور قيادة إسرائيلية أكثر اعتدالاً، على أن يتمّ تناول الشروط الدقيقة للدولة الفلسطينية والتفاوض عليها في وقت لاحق من قبل جيل جديد من القادة الإسرائيليّين والفلسطينيّين.

في رأي هاس هناك أسباب تدعو إلى الأمل، منها:

– الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي يرى نفسه صانع سلام ويجد نفسه في وضع يسمح له بذلك هنا.

– الدفع الأميركي النشط نحو السلام يُعزّز مكانة الولايات المتّحدة في العالم ومكانة رئيسها.

– العالم العربي على استعداد لإحلال السلام مع إسرائيل. إذ يؤكّد إعلان نيويورك بدعوته إلى إنهاء حكم “حماس” في غزّة وتسليم أسلحتها للسلطة الفلسطينية استعداد العالم العربي للعيش جنباً إلى جنب مع إسرائيل.

– في الوضع السياسي المتقلّب في إسرائيل يشير عدد الإسرائيليّين الذين يحتجّون على إضعاف محاكم البلاد والديمقراطية، والذين يدعون إلى إنهاء الحرب في غزّة وإعادة الرهائن، إلى أنّ إرث رئيس الوزراء إسحاق رابين، الذي سعى إلى تحقيق تسويات حذرة من أجل السلام، لا يزال قوّة قويّة في السياسة الإسرائيلية.

الآن هو الوقت المناسب

يدرك هاس أنّ قيام الدولة الفلسطينية لن يحلّ جميع المشاكل. لكنّه يرى أنّه “مهما كانت مخاطره وعيوبه، فإنّ حلّ الدولتين سيجعل إسرائيل في وضع أفضل من البدائل. فالوضع الراهن للاحتلال المفتوح يُنذر بدفع إسرائيل إلى مزيد من الانحدار نحو أن تصبح منبوذة دوليّاً وستواجه إرهاباً دائماً من شعب شعر أنّه ليس لديه ما يخسره”.

يضيف: “سيكون للنقل القسريّ لملايين الفلسطينيّين من غزّة والضفّة الغربية التأثير نفسه، وربّما يزعزع استقرار الأردن وجيرانه الآخرين، فيُعرِّض للخطر السلامَ الذي تتمتّع به إسرائيل مع الدول العربية وسعت إليه. إنّ حلّ الدولة الواحدة، الذي يُصبح فيه الفلسطينيون مواطنين إسرائيليّين، من شأنه أن يُهدّد يهوديّة إسرائيل، أو حكمها الديمقراطي، أو كليهما”.

يدعو أخيراً صانعي السياسات والمواطنين الأميركيّين الى أن يُدركوا أنّ ما يُعتبر اليوم موقفاً مؤيّداً لإسرائيل قد يُحكم عليه تاريخيّاً بشكل مختلف. ويؤكّد أنّ من مصلحة إسرائي

ل والولايات المتّحدة على حدّ سواء السعي إلى إقامة دولة فلسطينية قبل أن تتلاشى هذه الإمكانية إلى الأبد.

إيمان شمص

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.