زيارة البابا إلى لبنان: بين رسالة السماء ونداء الدولة
المحامي أسامة العرب
تأتي زيارة قداسة البابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان في واحدة من أكثر اللحظات حساسية في تاريخ البلاد الحديث. فلبنان يمرّ بمرحلة سياسية وأمنية دقيقة، تتقاطع فيها التحولات الإقليمية مع حاجة اللبنانيين الملحّة إلى الأمل والاستقرار. وفي هذا المناخ المضطرب، تحمل الزيارة البابوية دلالات روحية عميقة، لكنها في الوقت ذاته لا تنفصل عن الرسائل السياسية التي لطالما واكبَت علاقة الفاتيكان بلبنان.
فلبنان في قلب الفاتيكان، لأنه بلد الرسالة لا البلد العادي، فمنذ زمن بعيد، حجز لبنان مكانًا خاصًا في وجدان الكرسي الرسولي. فمن قداسة البابا يوحنا بولس الثاني الذي قال: «لبنان أكثر من وطن، هو رسالة»، إلى الباباوين بنديكتوس السادس عشر وفرنسيس، كان الإجماع ثابتًا: «إن لبنان نموذج فريد للعيش المشترك، وملتقى استثنائي للأديان والحضارات».
إنّ الفاتيكان ينظر إلى لبنان باعتباره آخر النقاط المضيئة في المشرق، ليس فقط بسبب حضوره المسيحي القوي، بل لأنه يمثّل حالة إنسانية وروحية لا بدّ من الدفاع عنها. ومن هنا، فإن زيارة البابا ليست مجرّد رحلة رعوية، بل فعل إيمان بقدرة اللبنانيين على استعادة دورهم التاريخي رغم كل الانهيارات.
يأتي قداسة البابا اليوم حاملاً معه هذه الروح: رسالة سلام، ودعوة إلى الثبات في الأرض، وتأكيدًا أن لبنان – رغم الظلام الراهن – لا يزال قادرًا على أن يكون مختبرًا عالميًا للسلام وللحوار.
كما أن رسالة البابا تكمن في أن المسيحيين ليسوا طرفًا بل جسر سلام، حيث سيركّز البابا خلال خطبه على ثوابت لطالما ردّدها الفاتيكان:
– ضرورة صون الوجود المسيحي ليس بمنطق الانغلاق، بل بمنطق الانفتاح والشراكة الوطنية.
– الإصرار على أن المسيحيين في لبنان ليسوا طرفًا بين أطراف، بل جسر توازن وسلام.
– الدعوة إلى تحييد لبنان عن صراعات المنطقة وإبعاده عن الاستقطابات المدمّرة.
– التشديد على أن العيش المشترك ليس شعارًا بل مشروع دولة كاملة الأركان.
وفي زمن تعصف فيه الحروب بالشرق، يريد البابا تذكير اللبنانيين والعالم بأن لبنان ليس ساحة، بل رسالة عالمية لا يمكن خسارتها.
كذلك، فلا يمكن أن يأتي البابا إلى لبنان بمعزل عن التطرق للحرب المستمرة منذ عامين بين إسرائيل و”حزب الله”، والتي أصابت الجنوب والبقاع والضاحية وبيروت بجراح كبيرة. فهنالك دمار واسع، وأرض محرومة، واعتداءات متكررة، وبنى تحتية مهدّمة… ومع ذلك، فإن الفاتيكان يرى أن زيارة البابا واجب معنوي وأخلاقي، تمامًا كما حصل خلال زيارات سابقة في ظروف صعبة.
إنّ الزيارة تأتي اليوم بصوتٍ عالمي يدعو إلى وقف النار، وحماية المدنيين، وإعادة الاعتبار لسيادة لبنان الذي يدفع وحده ثمن صراعات الآخرين.
من جهة أخرى، ففي ليلة الاستقلال، جاءت كلمة الرئيس العماد جوزاف عون من الجنوب لتعلن بداية مقاربة جديدة للدولة اللبنانية، أكثر وضوحًا وحزمًا في الملفات الحساسة التي تشمل: التفاوض، الأمن القومي، الانفتاح على المجتمع الدولي، وإعادة بناء الثقة.
ومن اللافت أن تتقاطع هذه المرحلة مع الزيارة البابوية، وكأن لبنان أمام نافذة نادرة تتوحّد فيها رسائل الدولة مع رسائل الكنيسة.
ولعلّ ما يجعل هذه اللحظة مميزة هو شعور اللبنانيين بأن “الأوقات الأسوداء” تنتهي تدريجيًا، وأن مرحلة جديدة قد تكون قيد التشكل، برعاية داخلية وروحية ودولية. ولهذا، تشهد مناطق جونيه وبكركي وحريصا وجلّ الديب ودير الصليب وعنايا والبيال ورشة غير مسبوقة لاستقبال البابا. فمن شوارع تنظَّف، إلى أديرة تُهيَّأ، إلى مساحات تستعد لاستقبال مئات الآلاف من المؤمنين. إنها ليست تحضيرات لاحتفال فقط، بل إعلان أن لبنان ما زال قادرًا على الحياة، وعلى الفرح، وعلى الاحتفال رغم كل جراحه.
وفي المحصلة، اليوم، تتقاطع ثلاث وقائع كبرى:خطاب الرئيس جوزاف عون، الزيارة البابوية المرتقبة، والتحولات الإقليمية العميقة ولا سيما في سوريا. وبينها جميعًا، إرادة لبنانية تتكوّن بصعوبة للخروج من خراب الماضي. ولكن يبقى السؤال الكبير: هل ستكون زيارة البابا لحظة روحية عابرة، أم منعطفًا يصنع سلامًا حقيقيًا على حدود الجنوب، وفي الضاحية، وفي قلب بيروت؟
برأينا، قد لا تحمل الزيارة حلولًا فورية، لكنها بالتأكيد تحمل رسالة: أن لبنان لم يُترك، وأن العالم لا يزال يراهن على قيامة هذا الوطن، وأن البابا يأتي اليوم ليقول للبنانيين: «لا تخافوا… أنتم شعب رسالة، وهذه الرسالة لم تمت».
أسامة العرب
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.