زيارة البابا لاوون إلى لبنان: رسالة أمل في زمن الاضطراب

5

بقلم د. ابراهيم العرب

يستعد الشرق الأوسط في أواخر هذا العام لاستقبال حدث ذي رمزية استثنائية، مع الزيارة المرتقبة للبابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان وتركيا، في أول جولة خارجية له منذ انتخابه. والبابا لاوون الرابع عشر هو أول بابا أمريكي في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، وقد جاء انتخابه في مرحلة دقيقة تشهد فيها الكنيسة العالمية تحوّلات عميقة في بنيتها ورسالتها، بينما يعيش العالم حالة اضطراب سياسي واجتماعي وثقافي. ومن هنا، فإن جولته المرتقبة لا تُقرأ كبادرة بروتوكولية فحسب، بل كرسالة إنسانية وسياسية في آن معاً، موجّهة إلى منطقة باتت في قلب التحديات العالمية.

إن اختيار لبنان ليكون الوجهة الأولى للبابا لاوون ليس خياراً عابراً، بل يحمل دلالات عميقة. فلبنان، الذي اعتبره البابا يوحنا بولس الثاني “أكثر من وطن، إنه رسالة”، يعيش اليوم أزمته الأخطر منذ تأسيسه. أزمة مالية واقتصادية غير مسبوقة أنهكت المواطنين، وانقسام سياسي عميق يعيق الإصلاح، ونزيف بشري متواصل نتيجة الهجرة. وفي ظل هذه الظروف، تبدو زيارة البابا كرسالة حياة لمسيحيي لبنان، الذين يشكّلون إحدى أقدم الجماعات المسيحية في الشرق الأوسط، ويُقدَّر عددهم بأكثر من مليوني ماروني إلى جانب كاثوليك وأرثوذوكس وسريان ولاتين. هؤلاء يرون في الكرسي الرسولي سنداً معنوياً وحامياً لوجودهم التاريخي المهدَّد.

ولطالما كانت العلاقة بين الكنيسة المارونية والفاتيكان علاقة أمومة ورعاية. فمنذ أن أقام الموارنة شراكتهم التاريخية مع الكرسي الرسولي، اعتُبرت روما المرجع الروحي الأكبر لهم، خصوصاً في أوقات الشدة. واليوم، تأتي زيارة البابا لاوون الرابع عشر لتؤكد هذه العلاقة، وتجدّد الطمأنة لمسيحيي الشرق عموماً بأنهم جزء أساسي من جسد الكنيسة الجامعة، وأنهم لن يُترَكوا وحدهم أمام التحديات.

ولا تقتصر رمزية الزيارة على البعد الروحي فحسب، بل تحمل أيضاً أبعاداً سياسية بليغة. ففي لحظة تتصاعد فيها الهواجس حول مصير التنوع الديني في الشرق الأوسط، يأتي حضور البابا لاوون ليشكل دعوة للعالم أجمع كي يلتفت مجدداً إلى هذه البقعة من الأرض التي أنجبت كل الديانات السماوية. كما أن الزيارة تمثل إسناداً معنوياً للبنان في وقت تعصف به الضغوط الاقتصادية والسياسية والإقليمية، لتؤكد أن الفاتيكان لا يزال ينظر إليه كرسالة حضارية تتجاوز مساحته الصغيرة وحدوده الضيقة.

ولعلّ توقيت الزيارة، إذا ما تم كما هو متوقع أواخر هذا العام، يضفي عليها بعداً رمزياً إضافياً، إذ تتزامن مع فترة الميلاد، بما تحمله من معانٍ عن التجدّد والرجاء. وبذلك، سيكون البابا حاضراً جسداً وروحاً بين اللبنانيين في لحظة يأس جماعي، ليشاركهم آلامهم ويمنحهم بركة الصمود.

أما المحطة الثانية للزيارة، أي تركيا، فتكتسب أهمية أخرى، إذ سيشارك البابا في الاحتفال بمرور 1700 عام على انعقاد مجمع نيقية الأول عام 325 ميلادية، وهو الحدث الذي وضع أسس العقيدة المسيحية وصاغ قانون الإيمان. إن مشاركة البابا في هذا الاحتفال ليست مجرد ذكرى تاريخية، بل إعادة تأكيد على أن جذور المسيحية عميقة في الشرق، وأن الحوار بين الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية يظل ركيزة أساسية في مسيرة الوحدة.

إضافة إلى ذلك، فإن زيارة البابا إلى بلد ذي غالبية مسلمة مثل تركيا تفتح نافذة مهمة على تعزيز الحوار بين الإسلام والمسيحية. فالعالم اليوم، الذي تهيمن عليه نزعات التطرف والانغلاق، يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى مبادرات رمزية تذكّره بأن الأديان وُجدت لتجمع لا لتفرق، ولتبني جسوراً لا لتقيم حواجز. وفي هذا السياق، تشكل جولة البابا استمراراً لنهج سلفه البابا فرنسيس، الذي جعل من الحوار بين الأديان والثقافات أحد أعمدة حبريته.

وبالعودة إلى التاريخ القريب، نجد أن كل زيارة بابوية إلى لبنان حملت في طياتها معاني كبرى. فزيارة البابا يوحنا بولس الثاني عام 1997 جاءت في أعقاب الحرب الأهلية، لتعيد الثقة لشعب أنهكته الانقسامات، ولتؤكد أن لبنان لا يزال يحتفظ برسالة حضارية رغم جراحه. وزيارة البابا بنديكتوس السادس عشر عام 2012 جاءت في وقت تصاعدت فيه التوترات الإقليمية، فكانت دعوته إلى الاعتدال والعيش المشترك بمثابة نداء عالمي. أما البابا فرنسيس، فرغم أنه لم يتمكن من زيارة لبنان لأسباب أمنية، فقد عبّر مراراً عن تضامنه، خصوصاً بعد انفجار مرفأ بيروت عام 2020، مؤكداً أن “لبنان ليس وحيداً”. واليوم، تأتي زيارة البابا لاوون الرابع عشر لتضيف صفحة جديدة إلى هذا السجل التاريخي الحافل.

ومع ذلك، فإن نجاح الزيارة وتحقيق أهدافها سيبقيان رهن الواقع الأمني والسياسي في المنطقة. فلبنان يعيش مرحلة دقيقة تتسم بتوترات داخلية وضغوط خارجية، فيما تشهد المنطقة بأسرها نزاعات مفتوحة. غير أن مجرد الإعلان عن الزيارة كان كافياً لإشاعة مناخ من الأمل، ولإعادة تسليط الضوء الدولي على قضايا لبنان ومعاناة شعبه.

في الختام، إن زيارة البابا لاوون الرابع عشر المرتقبة إلى لبنان وتركيا تمثل أكثر من مجرد رحلة بابوية تقليدية. إنها رسالة حيّة من الفاتيكان إلى الشرق، تؤكد أن العالم لم ينس هذه الأرض رغم كل أزماتها. إنها نفحة أمل لشعوب تعبت من الحروب والانقسامات، ودعوة مفتوحة للسلام والوحدة والحوار. وكما في كل محطة بابوية سابقة، فإن اللبنانيين يتطلعون إلى أن تكون هذه الزيارة شعلة مضيئة في عتمة أزماتهم، وأن تذكّر العالم بأن في هذا البلد الصغير يستحق الحياة والدعم. إنها صلاة عالمية من أجل لبنان، وجسرٌ جديد يُمد بين الشرق والغرب، بين الإسلام والمسيحية، وبين الإنسان وأخيه الإنسان.

د. ابراهيم العرب

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.