زيارة اللجنة السورية الأمنية – القضائية إلى لبنان: دوافعها وأبعادها

10

بقلم د. ابراهيم العرب

عاد ملف الموقوفين السوريين في السجون اللبنانية إلى واجهة النقاش السياسي والإعلامي من جديد، مع وفاة السجين السوري أسامة محمود الجاعور، المنحدر من مدينة القصير في ريف حمص، بعد عشر سنوات قضاها خلف القضبان تنفيذاً لحكم المؤبد. فقد أوقف الجاعور عام 2015 على خلفية مشاركته في القتال ضد النظام السوري السابق ضمن صفوف كتائب الفاروق، حيث ادعت عليه النيابة العامة اللبنانية حينها بجرم الإرهاب.

حادثة الوفاة تلك، لم تفتح جراحاً إنسانياً وحسب، بل أعادت إلى الضوء ملفاً شائكاً ومعقداً، يمسّ العلاقات اللبنانية – السورية، ويتجاوز الحدود القانونية ليصل إلى الحسابات السياسية الإقليمية والدولية. حيث تشير التقديرات إلى وجود أكثر من ألفي موقوف سوري في السجون اللبنانية، بينهم نحو 800 موقوف أمام القضاء العسكري بجرائم إرهابية. ويشكل هؤلاء عبئاً كبيراً على الدولة اللبنانية، إذ أن السجناء السوريين يمثلون قرابة 30% من مجموع السجناء في البلاد. فيما يعاني لبنان منذ سنوات من أزمة اكتظاظ خانقة في سجونه، لا سيما سجن رومية المركزي، حيث تفوق الأعداد القدرة الاستيعابية بأكثر من ثلاثة أضعاف، ما يجعل الوضع مخالفاً لمعايير حقوق الإنسان المعترف بها دولياً.

هذا الواقع المأساوي دفع الموقوفين وعائلاتهم إلى مناشدة الرئيس السوري أحمد الشرع بالتدخل من أجل إعادتهم إلى بلادهم واستكمال محاكمتهم هناك. فالكثير منهم يعتبر أن محاكمتهم في سوريا ستضمن لهم ظروفاً أفضل أو على الأقل تفتح لهم باب العفو أو تخفيف الأحكام.

وعلى الرغم من وجود اتفاقيات سابقة بين لبنان وسوريا، مثل اتفاقية استرداد المطلوبين، فإن تطبيق هذه الاتفاقيات بعد سقوط نظام بشار الأسد أصبح محفوفاً بالغموض. فهل ما زالت دمشق الجديدة تعترف بالاتفاقيات السابقة التي أبرمت في عهد آل الأسد؟ أم أن هناك حاجة لإعادة صياغة معاهدات جديدة تعكس طبيعة المرحلة الحالية؟

أما المعضلة الكبرى فتكمن في غياب أي اتفاقية لتسليم المحكومين بأحكام مبرمة. بمعنى أن لبنان لا يستطيع تسليم محكوم عليه سوري إلى دولته إلا إذا وُقعت معاهدة بين البلدين، وبحيث تُحال بعدها إلى المجلس النيابي اللبناني لإقرارها. وإذا تحقق ذلك، فقد يفتح الباب أمام إعادة نحو 370 سورياً محكوماً يقضون عقوباتهم في لبنان.

إلى جانب هذه الاتفاقيات، تُطرح منذ مدّة حلولاً بديلة تخفف من أزمة السجون، مثل إصدار عفو عام يشمل قضايا معينة، أو تحديد سقف زمني لعقوبة المؤبد والإعدام أسوة ببعض الدول الأوروبية، أو تقليص مدة السنة السجنية من تسعة أشهر إلى ستة أشهر لمرة واحدة، ما يسهم في تقليل أعداد السجناء.

في هذا السياق، أعلن الرئيس السوري أحمد الشرع عن تشكيل لجنة أمنية – قضائية – سياسية تضم ممثلين عن وزارات العدل والداخلية والخارجية، مهمتها إعداد ملف شامل للعلاقات مع لبنان، على أن تزور بيروت أواخر الشهر الجاري.

المصادر الدبلوماسية كشفت أن اللجنة ستبحث مع نظرائها اللبنانيين مجموعة واسعة من الملفات الحساسة، أبرزها:

  1. ملف الموقوفين السوريين: لوضع إطار قانوني لتسليمهم أو محاكمتهم في سوريا.
  2. ترسيم الحدود البرية والبحرية: خصوصاً في ضوء الاكتشافات الغازية والنفطية في شرق المتوسط.
  3. التعاون الأمني وضبط المعابر: لمواجهة التهريب والنشاطات غير الشرعية على الحدود.
  4. تنظيم عمل السفارة السورية في بيروت: بما يعكس مرحلة جديدة من العلاقات الدبلوماسية.
  5. استعراض الوساطة السعودية – الأميركية: وما يمكن أن تفضي إليه من حلول للأزمات اللبنانية – السورية.

لا يقتصر الملف على الجوانب القانونية والسياسية فحسب، بل يتعداه إلى البعد الإنساني. فظروف السجون اللبنانية صعبة حتى على السجناء اللبنانيين أنفسهم، فكيف الحال بالنسبة للموقوفين السوريين الذين يعيشون في بيئة غريبة وبعيدة عن ذويهم؟ فتقرير كل المنظمات الحقوقية اللبنانية والدولية أشار إلى أن الاكتظاظ، سوء التغذية، ضعف الرعاية الصحية، وتأخر المحاكمات كلها عوامل تزيد من معاناة السجناء. وقد أدت وفاة الجاعور مؤخراً إلى فتح النقاش حول مسؤولية الدولة اللبنانية في تأمين الحد الأدنى من المعايير الدولية لحقوق السجناء.

من جهة أخرى، فإن بقاء الموقوفين السوريين لفترات طويلة من دون محاكمات عادلة أو أحكام مبرمة، يثير تساؤلات قانونية وحقوقية حول مبدأ المحاكمة العادلة وحق الدفاع عن النفس. لذلك، فإن أي اتفاق لبناني – سوري بهذا الشأن سيُنظر إليه أيضاً كخطوة على طريق احترام المعايير الإنسانية.

كذلك، فإن زيارة اللجنة السورية لا يمكن النظر إليها على أنها خطوة تقنية فحسب. فهي تحمل رسائل سياسية متعددة:

بالنسبة للبنان، فإن حل هذا الملف يعني تخفيف الضغط عن السجون وتجنّب الانتقادات الحقوقية الدولية؛ كما يمنح دولتنا فرصة لترتيب العلاقات مع دمشق بطريقة عملية بعيداً عن الخلافات السياسية الداخلية.

أما بالنسبة لسوريا، فإن تسلّمها موقوفيها يشكل رسالة إلى الداخل والخارج بأنها دولة قادرة على استعادة دورها القضائي والسيادي، وأنها شريك لا يمكن تجاوزه في أي معادلة إقليمية. فإقليمياً، هذا التحرك يأتي في وقت تشهد فيه المنطقة انفتاحاً عربياً متدرجاً تجاه دمشق، ما يمنح الرئيس الشرع فرصة لتوظيف هذا الملف كورقة سياسية تعزز موقعه السوري.

في المحصلة، فإن زيارة اللجنة السورية الأمنية – القضائية المرتقبة إلى بيروت ليست مجرد محطة بروتوكولية، بل هي امتحان حقيقي للعلاقات اللبنانية – السورية في مرحلة ما بعد التحولات الإقليمية. فإذا نجحت هذه الزيارة في التوصل إلى تفاهمات عملية حول ملف الموقوفين والملفات الأخرى، فقد تشكّل بداية مسار ثنائي جديد، يضع أسساً مختلفة للعلاقات بين البلدين على قاعدة القانون والمؤسسات. أما إذا اصطدمت الزيارة بالعقبات السياسية والقانونية، فإن الأزمة ستبقى مفتوحة، وسيظل السجناء السوريون في واقع معقد يجمع بين السياسة والمتغيّرات الإقليمية من جهة، وبين حقوق الإنسان والعلاقات الدبلوماسية من جهة أخرى؛ على أمل أن تجد كل القضايا الإنسانية حلولاً مناسبة، وأن تسود أجواء الوفاق والوئام مع كل الجيران العرب، لاسيما الشقيقة الأقرب سوريا.

د. ابراهيم العرب

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.