سوريا بين غارات إسرائيل والانفتاح الأميركيّ

12

بقلم موفق حرب

«أساس ميديا»

هل تقود التفاهمات الأميركية مع دمشق إلى شرق أوسط جديد قائم على إعادة التموضع والصفقات المرحليّة؟ أم التصعيد في السويداء والغارات الإسرائيلية على العاصمة السوريّة يكشفان هشاشة هذه المقاربة، وحدود قدرة واشنطن على فرض توازن جديد بين الحلفاء والخصوم؟

بينما كانت أصداء الغارات الإسرائيلية تهزّ أرجاء العاصمة السوريّة، وفي وقتٍ تصاعدت فيه الاشتباكات الطائفية في السويداء وأسفرت عن مقتل أكثر من 200 شخص، وجدت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب نفسها أمام اختبار مبكر وحاسم لاستراتيجيتها الجديدة تجاه سوريا. ما يحدث في سوريا يكشف عن مدى هشاشة التوازن الإقليمي الجديد، وعن محدوديّة النفوذ الأميركي على الرغم من رفع العقوبات والإشادة بالقيادة الجديدة. فبينما كانت واشنطن تُشيد بما اعتبرته تحوّلاً معتدلاً في دمشق، كانت الطائرات الإسرائيلية تقصف أهدافاً في العاصمة، مبرّرة ذلك بضرورة حماية الدروز.

يعكس قرار الإدارة الأميركية برفع العقوبات والانفتاح على الرئيس أحمد الشرع تحوّلاً براغماتيّاً يسعى إلى تحقيق ثلاث غايات: تقليص النفوذ الإيراني، محاربة داعش والتهديد “الجهاديّ” المسلّح الداخلي وإعادة دمج سوريا في نظام إقليميّ جديد قد يشمل مستقبلاً اتّفاق سلام مع إسرائيل.

تجسّد هذا التحوّل في الأمر التنفيذي رقم 14312 وتعليق جزئيّ لقانون قيصر، وهو ما سمح بتدفّق مساعدات من السعودية ودول أخرى وفتح النقاش في احتمال انضمام سوريا  إلى “اتّفاقات أبراهام”، في حال نفّذت الحكومة الانتقالية إصلاحات سياسية وأمنيّة وبدّدت المخاوف الإسرائيلية.

وصف وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو هذه المقاربة بأنّها “إعادة تموضع واقعية” تركّز على محاربة الإرهاب، حماية الأقليّات ودعم إصلاح مؤسّسي حقيقي، وهي رؤية تراهن على الحوافز بدل العقوبات. ومع كلّ ذلك، وعلى الرغم من المدح الذي أطلقته واشنطن لحكومة الشرع، لم تستطع منع إسرائيل من توجيه ضربة عسكرية لحكومة أحمد الشرع محدودة لكن كبيرة معنويّاً.

نافذة للسّلام

تواصل إسرائيل تطبيق عقيدة الضربات الاستباقية ضدّ أيّ تهديد محتمل، لا سيما من إيران و”الحزب”. ولا تزال ترى أنّ تقارب سوريا مع واشنطن لا يبدّد هذه المخاطر تلقائيّاً، خصوصاً في ظلّ خلفيّة “هيئة تحرير الشام” المتحالفة مع حكومة الشرع.

على الرغم من الانفتاح على دمشق، لا تملك إدارة ترامب أدوات ضغط حقيقية على إسرائيل، ولا ترغب في التصادم معها، فدورها ينحصر في الوساطة لا الحماية، والتغيير في دمشق لا يترجَم تلقائيّاً إلى مظلّة أميركية.

لا يعني التواصل بين حكومة الشرع وإسرائيل أنّ إسرائيل أطلقت يد الشرع في سوريا، وربّما يكون الشرع قد اطمأنّ مبكراً لدعم واشنطن ونوايا إسرائيل من خلال رغبته في فرض واقع جديد في السويداء.

تبقى مع هذه الانتكاسات نافذةٌ محتملة لمسار سلام جديد بين سوريا وإسرائيل، لأوّل مرّة منذ عقود. إذ تشير بعض التحرّكات الدبلوماسية، بوساطة أميركية وخليجية، إلى استعداد مبدئي لبحث اتّفاق تهدئة طويل الأمد، خصوصاً إذا التزمت دمشق إبعاد إيران والميليشيات الموالية لها عن الحدود الجنوبية وقامت جدّياً بتفكيك الفصائل الجهاديّة التي تشكّل قسماً كبيراً من الفصائل التي أطاحت نظام بشار الأسد.

إلى الآن، لا تزال المؤشّرات متضاربة. تعهّدت حكومة الشرع بحماية الأقلّيات وأطلقت سلسلة إصلاحات أمنيّة، بينما تشير التقارير إلى نجاحات أوّلية ضدّ تنظيم داعش، الذي نفّذ 96 هجوماً هذا العام. من جهة أخرى، تخفيف العقوبات حرّك عجلة المساعدات، وبدأت محادثات في عودة اللاجئين، وسط تنسيق مع تركيا لضبط الوضع شمالاً، لكنّ المخاطر ما تزال ماثلة بقوّة.

توحيد لا تقسيم

كشفت الأحداث في السويداء هشاشة هيكل “تحرير الشام”، وبرزت مخاوف من تقسيم فعليّ للمناطق السوريّة إلى درزيّة وكرديّة وإسلاميّة، خاصة مع بقاء الموالين للأسد وغارات إسرائيل وتدخّل تركيا. حذّرت الأمم المتّحدة من أنّ غياب الحوكمة الشاملة قد يؤدّي إلى حرب أهليّة ثانية أشدّ فتكاً.

سياسة إدارة ترامب واضحة: دعم مشروط بالإصلاح، لا شيكات على بياض. فهي تكافئ التغيير، لكنّها لا تمنح ضمانات عسكرية. الشرع، إذا أراد الحفاظ على هذا الانفتاح، عليه أن يثبت قدرته على ضبط الأمن، تقليص النفوذ الإيراني وفتح قنوات حقيقية مع إسرائيل تحت مظلّة أميركية.

يبرز على الساحة السوريّة أيضاً تناقض في المصالح بين تركيا وإسرائيل وإن كان مُداراً بحذر. وتجد واشنطن نفسها مضطرّة إلى الموازنة الدقيقة بين تحالفين استراتيجيَّين متضادين. فتركيا تضع على رأس أولويّاتها منع قيام كيان كرديّ مستقلّ على حدودها، وتسعى إلى توسيع نفوذها في شمال سوريا من خلال دعم فصائل محلّية مسلّحة وتفاهمات ميدانية. في المقابل، تركّز إسرائيل على منع إعادة تمركز إيران وتسلّل “الحزب” وعدم وجود جماعات جهادية على حدودها، خاصّة في الجنوب السوري. يضع هذا التباين في الأولويّات البلدين أحياناً في مسارات متعارضة، لا سيما عندما تصطدم الفصائل المدعومة من تركيا مع الأكراد المدعومين أميركيّاً، أو عندما تستهدف إسرائيل مناطق تشهد نفوذاً تركيّاً متزايداً.

أمّا بالنسبة لواشنطن، فالتحدّي يكمن في الحفاظ على تحالفاتها مع الطرفين: تطمين إسرائيل إلى أنّ واشنطن تواصل التصدّي للتهديد الإيراني والجهاديّ مع الاستجابة لمطالب تركيا الأمنيّة بإنشاء مناطق آمنة وبسط نفوذها في الشمال. وقد قاد هذا الواقع إلى سياسة أميركية تقوم على “التفكيك المرحليّ”، تتغاضى بموجبه واشنطن ضمنيّاً عن بعض الغارات الإسرائيلية أو التدخّلات التركية، ما دامت لا تُهدّد الأهداف الأميركية الكبرى، مثل احتواء إيران وهزيمة داعش.

أعربت واشنطن عن قلقها إزاء السياسة الإسرائيلية في سوريا، وأبدت استغرابها من الهجمات الأخيرة التي شنتها إسرائيل على الأراضي السورية، والتي جاءت في وقت حساس تشهده البلاد. ونقلت Axios عن مسؤول أميركي رفيع قوله إن “إسرائيل لا ينبغي أن تكون هي من يقرر ما إذا كان يمكن للحكومة السورية أن تمارس سيادتها على مواطنيها وأراضيها”.

وأضاف المسؤول: “السياسة الإسرائيلية الحالية ستقود إلى سوريا غير مستقرة، وفي مثل هذا السيناريو، ستخسر كل من الطائفة الدرزية وإسرائيل”.

بات مصير سوريا مرتبطاً بقدرة حكومة الشرع على التوفيق بين المصالح الإقليمية وتجاوز إرث “تحرير الشام”، وبناء نموذج حكم تعدّدي يُوحّد البلاد، لا يُقسّمها. سيعني النجاح اندماجاً في شرق أوسط جديد متصالح مع واشنطن وتل أبيب، وأمّا الفشل فقد يُغرق سوريا في مستنقع جديد يتجاوز مأساة العقد الماضي، ويُربك حسابات ترامب وتحالفاته في المنطقة.

موفق حرب

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.