شرق أوسط عربيّ إسلاميّ مقابل “إسرائيل الكبرى”
بقلم أمين قمورية
«أساس ميديا»
ربّ ضارّة نافعة. باعتدائها على قطر لم تخرق إسرائيل سيادة دولة عربيّة مستقلّة حليفة للولايات المتّحدة لتنفيذ جريمة وحسب، بل ارتكبت خطأ استراتيجيّاً قد يشكّل نقطة تحوّل في معادلات الأمن الإقليميّ. دفعت الضربة بدول المنطقة إلى إعادة هندسة سياساتها الأمنيّة والتحالفات ورسم حدود الحماية ومعادلة القوّة.
في مقابل خطّة بنيامين نتنياهو لبناء شرق أوسط جديد تحت المظلّة الإسرائيليّة، برزت المساعي السعوديّة والمصريّة لإرساء شرق أوسط مغاير، عماده التحالف العربيّ الإسلاميّ. الرياض بعد تعزيز تفاهماتها مع مصر، اتّجهت نحو باكستان لبناء قدرة دفاعيّة وسياسيّة تظلّلها قوّة ردع نوويّة واقتصاديّة. أمّا القاهرة الساعية إلى بناء قوّة عربيّة مشتركة و”ناتو” عربيّ إسلامي، فشرّعت أبوابها نحو تركيا لتعزيز العمل المشترك وتثبيت حضورها البحريّ بعدما جعلت أعداد جيشها وتسليحه بأحدث الأسلحة المتنوّعة المصدر أولويّة وطنيّة.
تسارع الأحداث منذ هجوم الدوحة في 9 أيلول الجاري يكاد يحوّل الضربة من حدث أمنيّ إلى لحظة تأسيس لعقيدة أمنيّة عربيّة إسلاميّة تعيد رسم حدود الحماية والردع الجماعي وتكرّس معادلة التوازن والقوّة في مواجهة العدوانيّة الإسرائيليّة التي تجاوزت كلّ حدود، وأفقدت الحلفاء العرب لواشنطن ثقتهم بالمظلّة الأمنيّة الأميركية التقليدية.
ربّما وصْف صحيفة “واشنطن بوست” للضربة بأنّها “هجوم على الدبلوماسيّة ذاتها”، يفسّر عمق المخاطر الناجمة عنها. فقد دفعت باتّجاه إعادة تقويم شاملة لترتيبات الأمن الإقليميّ وأسس الوساطة. وفي هذا المناخ المتوتّر، تسارعت خطوات السعوديّة نحو بناء تحالفات أمنيّة جديدة تتجاوز الارتهان للحماية الغربيّة، ونحو البحث عن شركاء يمتلكون أدوات ردع حقيقيّة، بما في ذلك القدرات النوويّة غير المعلنة.
لا يمكن قراءة التحالف الجديد السعوديّ الباكستانيّ في إطار التعاون الثنائيّ الضيّق، بل ينبغي فهمه ضمن مشهد أوسع من إعادة التموضع الاستراتيجيّ والردع المؤسّسيّ، حيث تتداخل حسابات الردع النووي وتوازنات القوى في الشرق الأوسط وآسيا عموماً، في ظلّ تنامي الحضور الصينيّ الذي يشكّل صداعاً لا يُحتمل لواشنطن.
باكستان خيار استراتيجيّ
ليس هذا التحالف اتّفاقاً عابراً، بل هو ثمرة مسار طويل من العلاقات التاريخيّة المتنامية بين البلدين، على الرغم ممّا شابه من فترات شدّ وجذب. ويعكس إدراك الرياض وإسلام آباد لحقيقة التحوّلات الجارية في موازين القوى عالميّاً، ويفتح آفاقاً لتعاون أوسع في مجالات التدريب والتسليح والصناعات الدفاعية.
بهذا المعنى، يعزّز التحالف من قدرة البلدين على مواجهة التحدّيات الأمنيّة، ويوجّه في الوقت نفسه رسالة واضحة إلى القوى الإقليميّة والولايات المتّحدة بأنّ الرياض وإسلام آباد تمتلكان خياراتهما الخاصّة، وأنّ الاعتماد على المظلّات التقليدية لم يعد كافياً. ويعكس التحالف أيضاً تحوُّلاً جوهريّاً في العقيدة الأمنيّة السعوديّة، التي باتت تنظر إلى تنويع الشراكات كضرورة استراتيجيّة لا خيار تكتيكيّ وحسب. لم يكن اختيار باكستان اعتباطيّاً، بل جاء نتيجة حسابات دقيقة تتعلّق بقدراتها العسكريّة، وخبرتها في إدارة التوتّرات الإقليمية، وامتلاكها لردع نوويّ غير معلن. إسلام آباد تُعدّ الشريك المثاليّ للرياض: الأولى تجمع بين الردع النوويّ والخبرة العسكريّة والثانية تملك المكانة الاقتصادية والماليّة والسياسيّة، علاوة على القدرة الدفاعيّة والمعنويّة. ويضاف إلى ذلك رابط العقيدة الدينيّة الواحدة، والقلق المشترك من الاندفاعة الإسرائيليّة الجامحة وارتباك السياسات الأميركيّة.
ما يزيد الاتّفاق متانة هو وجود المشير عاصم منير على رأس الجيش الباكستانيّ، إذ شغل، مثل أسلافه، دور المستشار غير الرسميّ في السعوديّة، ويُعدّ من المتخصّصين في الشؤون العربيّة، مع قدرة لافتة على قراءة التحوّلات الإقليميّة. وكان من المساهمين الرئيسيّين في تحسين العلاقات السعوديّة–الإيرانيّة، وهو ما يمنح الشراكة بعداً إضافيّاً من المرونة والقدرة على إدارة التوازنات الحسّاسة.
هذا التطوّر السعودي النوعيّ مع باكستان ليس موجّهاً ضدّ الهند، الخصم الألدّ لإسلام آباد، ذلك أنّ الرياض رفعت في الوقت ذاته تعاملاتها الاقتصادية والسياسية مع دلهي إلى مستوى غير مسبوق. وتبرز الصين كلاعب ثالث غير معلن، لكنّه حاضر بقوّة من خلال دعم عسكريّ وتكنولوجيّ متصاعد لإسلام آباد وأخيراً لمصر ودول عربيّة عدّة. والرياض ليست بعيدة أيضاً عن شريكتها الاقتصاديّة بكين التي اضطلعت بدور بارز في التوصّل إلى اتّفاق أنهى القطيعة بين السعوديّة وإيران وأسّس لعلاقة قائمة على الحوار والتفاهم. ولا تحسب نفسها مشروعاً بديلاً لأميركا في الشرق الأوسط والخليج، بل تنظر إلى استقرار هذه المنطقة كحاجة ملحّة لخططها الاقتصادية والاستراتيجيّة البعيدة، وفي مقدَّمها ضمان أمن طرق التجارة الدوليّة، وتتطلّع إلى دفع دول المنطقة نحو تشكيل قوّة ضغط مستقلّة تعيد تعريف أدوار القوى الكبرى في المنطقة، بعيداً من الاستقطابات الدوليّة الحادّة والالتحاق الكامل بواشنطن.
“بحر الصّداقة” المصريّة التّركيّة
في المقلب العربي الآخر، تتشارك القاهرة مع الرياض في الرؤية السياسية والحاجة الملحّة إلى بناء منظومات ردع حقيقيّة، تستند إلى شراكات استراتيجيّة، وقدرات عسكريّة نوعيّة، وتحالفات تتجاوز الاصطفافات التقليديّة. وترى القاهرة أنّ هجوم الدوحة والانفلات الإسرائيليّ بلا ضوابط يقدّمان الدليل الملموس على:
- غياب نيّة السلام لدى إسرائيل مع الفلسطينيّين ودول الجوار، وأثبتت معاهدات التطبيع عجزها عن توفير الحماية لأحد، خصوصاً مع استمرار سياسات الإبادة والترانسفير التي تهدّد الأمن القوميّ لكلّ من مصر والأردن، بعد الكوارث التي أصابت لبنان وسوريا وفلسطين.
- انكشاف المظلّة الأميركيّة، التي تتصرّف وكأنّها وُجدت لحماية إسرائيل والتغطية على عربدتها، سواء كان المستهدَف خصماً لواشنطن أو حليفاً استراتيجيّاً مثل قطر. ومن هنا، لم يعد الرهان على الولايات المتّحدة كحامٍ أو وسيط رهاناً واقعيّاً، خصوصاً بعد موقفها الصارم الرافض لحلّ الدولتين، وتغطيتها على الجرائم الفظيعة في غزّة، وإطلاق يد إسرائيل لمواصلة عدوانها الواسع على نصف دزينة من الدول العربية دفعة واحدة.
في غمرة انهماك الجيش المصري في إعادة التسلُّح والتجهيز، وذروة الاتّهامات الإسرائيلية لمصر بأنّها خرقت معاهدة كامب ديفيد وأنّها المسؤولة عن حصار القطاع وإغلاقه في وجه الفلسطينيّين، أطلقت القاهرة وأنقرة مناورات “بحر الصداقة” العسكريّة البحريّة بينهما بعد توقّف في الأعوام السابقة على خلفيّة التوتّرات في أعقاب الأحداث التي شهدتها القاهرة عام 2013.
تأتي هذه المناورات بعد أقلّ من شهر من توقيع البلدين أواخر الشهر الماضي اتّفاقاً للتصنيع المشترَك للطائرات المسيَّرة ذات الإقلاع والهبوط العموديَّين، في خطوة تهدف إلى توطين تكنولوجيا الطائرات المسيّرة في مصنع “قادر للصناعات المتطوّرة” التابع للهيئة العربيّة للتصنيع في مصر.
يعكس استئناف المناورات البحريّة تفاهمات بين البلدين تتجاوز التعاون العسكري والسياسي إلى عمق العلاقات الاقتصاديّة، وفي مقدَّمها ملفّ غاز المتوسّط الشائك الذي شكّل أبرز وجوه الخلاف في السابق، والعمل على تعزيز الاستثمار المتبادل وتقديم التعاون على التنافس والصراع. ولا ينفصل ذلك عن سياق سياسيّ مختلف بدأت تقوده مصر في اتّجاه تغيير السياسات تبعاً للمصالح والأخطار المستجدّة وتجلّى خصوصاً في الانفتاح على إيران بعد خصام طويل، وانخراطها في وساطة بين طهران والوكالة الدولية للطاقة الذرّية لتفادي الانجرار إلى حرب جديدة.
على الرغم من إصرار الجانبين على عدم ربط التعاون العسكري بالأحداث الجارية في الإقليم، لا ينفيان أنّ التهديدات والأخطار التي تمرّ بها المنطقة تجعل من الضرورة أن يكون هناك تعاون أعمق بين تركيا ومصر. وفي هذا السياق شدّد وزير الخارجية التركي حقّان فيدان على التعاون الوثيق “للغاية” بين البلدين في شأن قضيّة فلسطين، و”نعمل في هذا الصدد كالجسد الواحد”.
مع ذلك، رأى الإعلام العبريّ في هذا التقارب العسكري المصري-التركيّ تطوّراً مقلقاً لإسرائيل، ووصفه بأنّه رسالة استراتيجيّة جديدة تُعيد تشكيل توازنات القوى في المنطقة، وتثير مخاوف جدّية لدى الدوائر الإسرائيليّة، ذلك أنّ البلدين يمتلكان أطول السواحل وأكثرها تأثيراً في المنطقة وتعكس مناورتهم المشتركة رغبتهما في تثبيت أسس تعاون استراتيجيّ بعيد المدى والاستعداد لأيّ سيناريو طارئ.
أمين قمورية
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.