طهران – تل أبيب: العودة إلى تقاطع 1983 ضدّ واشنطن؟

4

بقلم ابراهيم ريحان

«أساس ميديا»

أطلق الرئيس الأميركي دونالد ترامب مسارَ التسويات في المنطقة. لكنّ هذه التسويات إمّا أنّ تكونَ بهدوءٍ مع ما يتناسب مع رؤيتِه، وإمّا أن يلجأ إلى خيار “السّلام بالقوّة” الذي كرّره أكثر من مرّة في تل أبيب. أضِف إلى ذلكَ أنّ كلامه عن “امتلاك الولايات المُتّحدة أسلحة لا يحلمُ بها أحد ونأمل أن لا نضطرّ إلى استخدامها” لم يكُن موجّهاً إلّا إلى إيران. إذ إنّ الأخيرة لم تُلبِّ الدّعوة التي وُجِّهَت إليها لحضور قمّة شرم الشّيخ. وهي دعوةٌ كانت بمنزلةِ فرصةٍ لإيران لإثبات جدّيّتها في التّفاوض والتّوصّل إلى تسوية مع واشنطن.

تعرفُ الإدارة الأميركيّة جيّداً أنّ طهران لا تزال تمتلك القدرة على تخريب أيّ اتّفاقٍ أو تسويةٍ في المنطقة. لهذا لم ينقطع التّواصل غير المُباشر بين واشنطن وطهران طوال الأسابيع الماضية. لكن لم يستطِع الجانبان حتّى كتابة هذه السّطور المُضيّ قُدماً إلّا بتأجيل الصِّدام بينهما.

هل إيران مستعدّة للسّلام؟

تشير معلومات “أساس” إلى أنّ وزير الخارجيّة الإيرانيّ عبّاس عراقجي أرسلَ إلى مبعوث الرّئيس الأميركيّ إلى الشّرق الأوسط ستيفن ويتكوف عبر الوسطاء أنّ إيران جاهزة لتوقيع اتّفاقٍ بشكلٍ فوريّ مع الولايات المُتّحدة في حالِ رأت القيادة الإيرانيّة أنّ الاتّفاق “منصفٌ وعادل”.

طُوِيَت صفحةٌ جديدة من تاريخ الشّرق الأوسط لتبدأ مرحلةٌ جديدة. تغيّر الكثير منذ قرّرَ يحيى السّنوار اقتحام الحدود الفاصلة بين قطاع غزّة والمستوطنات الإسرائيليّة. على مدى عاميْن شهِدَت أرضُ غزّة أعنفَ جولات القِتال بين إسرائيل والفلسطينيّين، وأعنفَ حربٍ في تاريخ الصّراع العربيّ – الإسرائيليّ. تمخّضَت عن هذين العامَين “وثيقة قمّة شرم الشّيخ” التي أعلَنَت انتهاء الحربِ في غزّة بشكلٍ رسميّ وبضمانةٍ من رئيس الولايات المُتّحدة الأميركيّة دونالد ترامب.

لا تُشبِهُ “قمّة شرم الشّيخ” ما سبقَها من مؤتمراتٍ ومفاوضات سلامٍ مثل “أوسلو” و”مدريد”. الجديدُ أنّ حركةَ “حماس” كانت طرفاً مُشاركاً في الاتّفاق الذي أدّى إلى وقفِ الحرب. وهي التي كانت قد تمرّدَت على وثيقة “أوسلو” التي وُقِّعَت عام 1993 بين “مُنظّمة التحرير الفلسطينيّة” برئاسة الزّعيم الفلسطينيّ الرّاحل ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيليّ حينذاك إسحق رابين، بحضور الرّئيس الأميركيّ بيل كلينتون في عاصمة القرار واشنطن.

تولّت “حماس” التّمرّد فلسطينيّاً على “أوسلو”، بينما تولّى بنيامين نتنياهو التّحريضَ على الاتّفاق من الجانب الإسرائيليّ، حتّى اغتيلَ رابين ومعهُ أيّ إمكان للسّلام. بكلامٍ آخر، تقاطعَت الرّاديكاليّتان الفلسطينيّة والإسرائيليّة على ضربِ هذا المسار.

اشتباك الرّاديكاليّتَيْن

وصلَ الجانبان المُتقاطعان إلى حدّ الاشتباك الأعنف يومَ السّابع من أكتوبر/تشرين الأوّل 2023. في غزّة كانت “الحركة” التي غالباً ما تُردّدُ شعار فلسطين “من البحر إلى النّهر”، بغضّ النّظر عن أحقيّته وبُعده عن الواقع في آنٍ واحد. أمّا في القُدسِ المُحتلّة، فتمكثُ حكومةٌ يمينيّة توراتيّة تلموديّة ذهبَت في الحدّ الأدنى إلى شعار إسرائيل “من البحر إلى النّهر” وفي حدّها الأقصى “من الفرات إلى النّيل”.

جاءَ اتّفاق شرم الشّيخ في ظروفٍ تختلفُ عن كلّ ما شهِدَته مرحلة ما قبل وما بعد أيّ مفاوضات إسرائيليّة – فلسطينيّة سابقاً. لا إسرائيل هي نفسها، ولا الولايات المُتّحدة هي نفسها، ولا حتّى الجانبُ الفلسطينيّ هو نفسه. تبدّلت الظّروف والوقائع ومعها موازين القوى في الشّرق الأوسط.

الثّابتُ أنّ في واشنطن رئيسٌ لا يُشبه من سبقوه منذ تأسيس الولايات المُتّحدة الأميركيّة اسمه دونالد ترامب. رئيسٌ يدعم إسرائيل كما لم يدعمها أيّ رئيس سبقه، وفي الوقتِ نفسه يفرضُ ما يُريدُ في التّوقيت الذي يراه مُناسباً.هذا ما يُمكنُ قراءته في تصريحه بعد وصوله إلى مطار بن غوريون في تل أبيب بقوله: “الحرب في غزّة انتهت، الحرب في غزّة انتهت، هل تفهمون؟”. كانَ واضحاً أنّ كلام ترامب جاءَ في سياق ردّه على نتنياهو الذي قال قبل وصول ترامب بساعات إنّ “الحرب لم تنتهِ بعد”، فغيّرَ نتنياهو لهجتهُ بعدئذٍ وكال المديحَ لترامب واتّفاق شرم الشّيخ من على منبر الكنيست الإسرائيليّ.

لاءات واشنطن..

لا تزال واشنطن حتّى هذه السّاعة مُتمسّكةً بـ3 عناوين أساسيّة لأيّ مُفاوضات مع طهران:

1- تصفير تخصيب اليورانيوم على الأراضي الإيرانيّة بشكلٍ كامل وفكّ أجهزة الطّرد المركزيّ، أو ما بقي منها.

2- وقف دعم الوكلاء بالمال والسّلاح بشكلٍ كاملٍ، وتحديداً “الحزبَ” في لبنان والحشد الشّعبيّ في العراق والحوثيّين في اليمن، والعمل على تفكيك الأذرع بشكلٍ كامل.

3- تحديد نطاق البرنامج الصّاروخيّ الإيرانيّ بما لا يُهدّد أمن إسرائيل.

أضافت الولايات المُتّحدة نقطةً جديدةً لا تقلّ صعوبةً عمّا سبق، وهي إنهاء حالة العداء مع إسرائيل وبدء مفاوضات برعاية أميركيّة بين طهران وتل أبيب في حال توصّلت أميركا وإيران إلى اتّفاقٍ نوويّ.

هذا ما يُفسّر دعوة ترامب إيران أكثر من مرّة إلى الانضمام إلى محادثات السّلام في المنطقة. لكنّ ترامب قد لا ينتظر إيران طويلاً. إذ تخشى واشنطن أن تقتنص طهران أيّ فرصة تسمحُ لها بتخريب المسار الجديد، وهي التي قد تتقاطع في هذا الشأن مع نتنياهو الذي وافقَ مُرغماً على وقفِ الحرب على قطاع غزّة. وهذا ما يُعيدُ إلى الأذهان مرحلة ما بعدَ اجتياح لبنان عام 1982، حين تقاطَع الجانبان ضدّ الدّور الأميركيّ، وفجّرَت إيران مقرّ البحريّة الأميركيّة في بيروت في 1983، فخرجَت الولايات المُتّحدة من لبنان ودخلت طهران لتتقاسم النّفوذ والصِّدام مع حكومة مناحيم بيغن اليمينيّة حينذاك.

تقاطع تل أبيب وطهران؟

الجديد هو تفاوض الرّاديكاليّتَيْن في غزّة وإسرائيل. لكنّ الأهمَّ عند ترامب هو فتحُ ثغرةٍ بين راديكاليّة تل أبيب ونظيرتها في طهران. وهذه هي المهمّة الأصعب في كلّ هذا المخاض. طهران المُحاصَرة والمُثقلة بنتائج جولةِ قتالها مع إسرائيل في حزيران الماضي، لا تبدو جاهزةً للتنازلات الاستراتيجيّة.

كذلكَ في إسرائيل حيث لا يريدُ نتنياهو ضربَ سرديّة ائتلافه اليمينيّ القائمة على تعزيز الاحتلال والضمّ وتهجير الفلسطينيّين، لكنّه غير قادر على معارضة ترامب علناً، بخاصّة أنّه على بُعدِ سنةٍ من انتخاباتٍ تشريعيّة تُحدّدُ من يُمسكُ زمام السّلطة في إسرائيل حتّى 2030.

من هذا المُنطلق يُمكنُ القول إنّ تل أبيب وطهران أمام خيارين لا ثالث لهما:

– إمّا أن تتنازلا وتذهبا نحوَ التفاوض الذي يُريده ترامب تحت عنوان السّلام.

– إمّا أن تتقاطعا على مواجهةٍ عسكريّةٍ تنسفُ المسارَ وتُعيدُ إحياء سرديّة الائتلاف اليمينيّ في تل أبيب القائمة على التوسّع وما يُسمّى بالحقوق التوراتيّة والتلموديّة، وتعيدُ لإيران التّشبّثَ بسرديّاتها الغيبيّة التي قامت عليها الجمهوريّة الإسلاميّة بعد ثورة الإمام الخُمينيّ والإطاحة بنظام الشّاه.

يبدو الخيار الثّاني أقربَ إلى الواقع. لكنّ الأهمّ: أين سيكونُ مسرحَ التقاطع؟

يقول الواقع السّياسيّ في المنطقة إنّ السّاحة الأقربَ والأكثر جهوزيّة هي السّاحة اللبنانيّة، حيْثُ لم توقف إسرائيل اعتداءاتها منذ دخول اتّفاق “وقف الأعمال العدائيّة بين “الحزب” وإسرائيل” في 27 تشرين الثّاني 2024 حيّز التنفيذ. وأعلنَ “الحزب” نفسه تحدّي القرار بإعلان أمينه العامّ الشّيخ نعيم قاسم أنّه ماضٍ في “طريق التعافي وإعادة بناء القُدرة العسكريّة”.

ابراهيم ريحان

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.