عندما ينتصر “الحزب” على محازبيه
بقلم حسن فحص
«أساس ميديا»
انتهت الانتخابات البلدية والاختيارية بجميع محطّاتها، وقد تحوّلت إلى فرصة للأحزاب التقليدية المسيطرة على المشهد السياسي لإبراز عضلاتها الشعبية والتمثيلية. منها من استطاع أن يحقّق هذا الهدف، ومنها من لا يزال مصرّاً على إنكار حقيقة تراجع قدرته على ترجمة فائض قوّته السياسية الظاهرة إلى أمر واقع شعبي داخل حاضنته أو بيئته الطائفية أو المذهبية، فباتوا غير قادرين على ادّعاء حصريّة التمثيل لهذه الحاضنة.
قد يكون من الصعب اعتبار الانتخابات البلديّة مؤشّراً إلى ما ستكون عليه الانتخابات البرلمانية المرتقبة، لأنّ الاعتبارات العائلية والتنافس بين أبناء البلدة الواحدة يتقدّمان على الاعتبارات الحزبية أو السياسية. من هنا كان واضحاً تراجع الأحزاب السياسية عن سياسة إقصاء مطالب العائلات وتوازناتها في تشكيل لوائح المرشّحين، ولم تتشدّد كثيراً في فرض مصالحها الحزبية والتنظيمية كما كان يظهر في الانتخابات السابقة.
ربّما التطوّرات والأوضاع التي يمرّ بها لبنان نتيجة ما شهده من حرب إسرائيلية ضدّ “الحزب”، وما أدّت إليه من خلل في موازين القوى والأوزان السياسية، علاوة على تراكم الأخطاء وتراجع قدرة الأحزاب عن تقديم الخدمات، التي تشكّل مدخلاً لشراء الولاءات، هي التي فرضت على القوى السياسية والأحزاب إدخال نوع من التغيير في تعاطيها مع الرأي العامّ الشعبي لأنّ هذه الانتخابات من المفترض أن يستغلّها الجمهور ويوظّفها للتعبير عن موقفه ومطالبه.
في المقابل، كان سياق آخر من الصراع على مآلات هذه الانتخابات ونتائجها يدور خلف الكواليس السياسية المحلّية والدولية، بما فيها الرهان على ما قد تتيحه هذه الانتخابات ونتائجها من فرصة لإقصاء غريم أو خصم سياسي بشكل تامّ عن المشهد السياسي، سواء داخل إحدى البيئات الشعبية والطائفية، أو في بيئة أخرى تشكّل حاضنة للخصم.
هنا تأخذ الانتخابات البلديّة طابعاً مختلفاً لدى “الحزب” من جهة، والقوى السياسية المنافسة أو المتخاصمة معه من جهة أخرى، سواء داخل البيئة الشيعية أو في الطوائف الأخرى.
رهانات الخصوم مرتفعة
رفعت القوى السياسية، التي تطلق على نفسها صفة السيادية، رهاناتها على إلحاق هزيمة بـ”الحزب” داخل بيئته وحاضنته الشعبية، انطلاقاً من محاولة توظيف تداعيات الضربة القاسية التي تعرّض لها في معركة “الإسناد”، والتي كشفت حجم ما أصابه من ضربات جعلته غير قادر على الاستثمار في ما يقول عنه أو يصفه بأنّه انتصار عسكري ميدانيّ. وذلك إلى جانب ما أظهره من فشل وعجز عن مواكبة الحدث السياسي المستجدّ تُرجما بنوع من قناعة ذاتية بتعرّضه لهزيمة سياسية نتيجة هزيمة أمنيّة أدّت إلى خسارته أمينه العامّ الذي لم يكن ممسكاً بكلّ مفاتيح القرار السياسي والتنظيمي والعسكري على مستوى الداخل اللبناني وحسب، بل وعلى مستوى المحور الذي ينتمي إليه في الإقليم.
جاءت الانتخابات البلدية في توقيت كانت قيادة “الحزب” منشغلة في كيفية ترميم قواعدها الشعبية، التي بدأت طرح الكثير من الأسئلة في العلن ووراء الكواليس عن جدوى المعركة التي خاضها “الحزب” والأثمان التي قدّمها، والتي تحوّلت إلى كابوس أعادها إلى مرحلة الدفاع عن نفسها أمام تحدٍّ وجوديّ يمسّ موقعها ودورها في التركيبة اللبنانية وحجمها في السلطة وتأثيرها. صارت كلّ هذه الاعتبارات في دائرة الشكوك نتيجة ما انتهت إليه معادلات إعادة بناء الدولة ومؤسّساتها، علاوة على الغموض الذي يحيط بمصير التعويضات وإعادة الإعمار التي تشكّل الحدّ الأدنى من سقف مطالبها مقابل ما قدّمته من خسائر وتضحيات مادّية وبشرية.
معركة وجود
على الرغم من قناعة قيادة “الحزب” بأنّ الانتخابات البلدية ليست سوى معركة إنمائية وخدميّة، رفعت مستوى التحدّي ونقلتها إلى مستوى التحدّي السياسي، فتعاملت في جميع الدوائر الانتخابية التي شاركت فيها، سواء بشكل مباشر أو عبر حلفائها أو من بقي منهم، باعتبار المعركة معركة وجود وإعادة ترميم لمواقعها الشعبية، بغضّ النظر عن هويّة وانتماء الجهة المنافسة.
وضعت إدارة العمل البلديّ في “الحزب” استراتيجية واضحة لخوض هذه الانتخابات وحتّى لنتائجها. وابتعدت عن إطلاق اسم “معركة” عليها، وأصرّت على وصفها بالسباق “التنافسي” بين أبناء البيئة والحاضنة الشعبية لإيصال الأكثر تأهُّلاً لتقديم الخدمات والعمل التنموي. لذلك بذلت منذ البداية جهداً لتجنّب الوصول إلى صندوق الاقتراع من خلال الدفع نحو تسويات تسمح بإعلان فوز العدد الأكبر من البلديّات بالتزكية. وقد جاءت ترجمة هذه الجهود بوضوح في دائرتَي الجنوب والنبطية، من خلال إعلان تزكية نحو 55 في المئة من لوائح تحالف الثنائي.
التّرشيحات من صفوف الثّنائيّ
أمام نجاح “الحزب” أو الثنائي في إيصال أو فرض الأسماء التي اختارها لتكون على لوائحه في القرى والبلدات التي فازت بالتزكية، ركّزت آليّة اختيار المرشّحين، وإن كانت تحت عنوان التشارك بينها وبين العائلات ومكوّنات هذه البلدات، على أن يكون ممثّلو العائلات المتحالفة معها من المقرّبين أو الموالين أو المنتظمين، الأمر الذي ضمن له إيصال من يريد تحت عنوان التعدّدية والتشاركيّة.
في المقابل، حوّل “الحزب” المعركة في البلدات التي لم يستطع إنتاج أو فرض تزكية فيها، إلى معركة وجودية، مسقطاً جميع الاعتبارات التمثيلية أو العائلية من أجل اللائحة التي أعلن تبنّيها. وخاض المعركة الانتخابية بكلّ قوّة وقسوة لإسقاط المنافسين، حتّى لو كانوا من أبناء التنظيم، الذين قرّروا خوض الانتخابات اعتراضاً على سوء اختيار أعضاء اللائحة أو افتقارهم إلى التمثيل الواسع داخل عائلاتهم أو حتّى داخل الجسم التنظيمي.
المحدلة النّسائيّة
في البلدات التي شعر فيها “الحزب” بإمكان حصول اختراق ولو بالحّد الأدنى، ليس من خارج الثنائي، بل من أبناء التنظيم المعترضين، لجأ إلى استخدام “محدلته النسائية” التي نزلت بكلّ قوّة وعزم في ساعات بعد الظهر، بالإضافة إلى إسقاطه جميع المعايير الأخلاقية في التعامل مع الخصم أو المنافس وحرمانه من أصوات مستحقّة كان من الممكن أن تشكّل فارقاً، وبذلك قطع الطريق على أيّ محاولة أو احتمال لقلب النتيجة أو اختراق غير مرغوب به، حتى لو كان من أشخاص يعودون في مرجعيّتهم السياسية له أو للثنائي.
كشفت الانتخابات البلدية، على الأقلّ في الجنوب، أنّ قيادة “الحزب” أو العمل البلدي فيه، خاضت معركة انتخابية ضدّ محازبيها ممّن لم يلتزموا القرار التنظيمي. وقد اتّخذت قراراً واضحاً بعدم السماح بحصول أيّ خرق في اللوائح التي أعلنتها، حتّى من مرشّحين ينتمون إلى صفوفها. وهي الصفة الغالبة على معظم المرشّحين المستقلّين الذين نافسوا لوائح الثنائي.
الخلاصة أنّ “الحزب” حرص على توجيه رسالة للبيئة وللآخرين، بأنّه ما يزال يتمتّع بحصريّة تمثيل البيئة، وأنّ قوّته ومكانته الشعبية والانتخابية قادرة على فرض النتيجة التي يريدها، وهذا ما فعله في انتخابات بلديّة بيروت. تفيد الرسالة أيضاً بأنّ الاعتبارات الحزبية لا تقف عند أقدميّة المنافسين في العمل المقاوم أو الحزبي، وأنّه لن يسمح أو يتهاون في التعامل بقسوة مع أيّ صوت اعتراضي داخل صفوفه، وعلى استعداد للتعامل مع هذا العصيان ضمن الآليّات التنظيمية.
حسن فحص
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.