قانون تنظيم القضاء العدلي: إصلاح مشوَّه أم تكريس للهيمنة السياسية؟
بقلم د. ابراهيم العرب
يُعدّ استقلال السلطة القضائية من أبرز ركائز دولة القانون والمؤسسات، وهو ليس ترفًا تنظيميًا أو مطلبًا نقابيًا فئويًا، بل شرطٌ لا غنى عنه لضمان سيادة العدالة، وحماية الحقوق والحريات الأساسية، وصون مبدأ الفصل بين السلطات. فالقضاء المستقل هو ضمانة المواطن الأخيرة أمام تعسف السلطة، وسلاح الدولة الأهم في مكافحة الفساد واستعادة الثقة العامة. غير أن الواقع اللبناني، المُثقَل بالتجاذبات الطائفية والمصالح السياسية المتشابكة، يجعل من استقلال القضاء تحديًا يوميًا ومعركة مستمرة.
في هذا السياق المعقّد، أقرّ مجلس النواب اللبناني مؤخرًا قانون تنظيم القضاء العدلي، والذي رُوِّج له في الخطاب الرسمي والإعلامي كخطوة إصلاحية طال انتظارها، تهدف إلى ترسيخ استقلالية القضاء وتعزيز أدائه. إلا أنّ القراءة المتأنية لمضامين هذا القانون تكشف عن مجموعة من الثغرات الخطيرة، التي لا تكرّس استقلال القضاء بقدر ما تعيد إنتاج المنظومة القديمة، مع بعض التجميل الشكلي، ما يدفعنا للتساؤل عمّا إذا كنّا أمام إصلاح حقيقي أم مجرّد محاولة لتكريس هيمنة السلطة التنفيذية على المؤسسة القضائية؟
أولًا: غياب الاستقلالية المالية كأداة للضغط
من أبرز أوجه القصور في القانون الجديد هو غياب أي ضمانة حقيقية للاستقلال المالي للقضاء. فالمؤسسة القضائية لا تزال تفتقر إلى ميزانية مستقلة تُدرَج ضمن الموازنة العامة بشكل واضح، ولا تزال رواتب القضاة مرهونة بتوقيع وزير المالية أو غيره من المرجعيات السياسية، ما يتركهم عرضة لضغوط تمسّ استقلاليتهم وكرامتهم المهنية. وتُعتبر الاستقلالية المالية، بحسب المعايير الدولية، أحد الشروط الأساسية لأي قضاء مستقل، إذ لا يمكن الحديث عن سلطة تفصل في النزاعات وتواجه الفساد، فيما هي نفسها تحت رحمة الجهات التي قد تكون موضوعًا لمحاكمتها.
ثانيًا: اختلال التوازن داخل مجلس القضاء الأعلى
على الرغم من إدراج بند يسمح بانتخاب أربعة أعضاء في مجلس القضاء الأعلى، فإن الغالبية ما تزال تُعيَّن من قبل السلطة التنفيذية، ما يعني أن القرار داخل المجلس سيظل خاضعًا للضغوط السياسية والحسابات الطائفية. والمفارقة أن المجلس، الذي يُعتبر الحصن الأول للقضاة والمدافع عن استقلالهم، يُشكَّل بطريقة تجعله بدوره خاضعًا للتجاذبات، ما يُفرغه من أي مضمون إصلاحي أو وقائي.
ثالثًا: استمرار ربط التشكيلات القضائية بالسلطة السياسية
رغم المطالبات المتكررة بأن تكون التشكيلات القضائية – أي توزيع القضاة على المحاكم والمراكز – من صلاحية مجلس القضاء الأعلى وحده، يُبقي القانون الجديد هذه التشكيلات مرهونة بإرادة السلطة التنفيذية. إذ يشترط أن تصدر بمرسوم يوقّعه كل من رئيس الجمهورية، ورئيس الحكومة، ووزيري المالية والعدل، ما يمنح القِوَى السياسية حق “الفيتو” الضمني، ويفتح الباب أمام المقايضات والمساومات. وبهذا، تُفرغ التشكيلات من طابعها القضائي المستقل، وتُبقي القضاة رهائن في مواقعهم، يخضعون لأمزجة أهل السلطة.
رابعًا: تكريس المحاصصة الطائفية بدل تجاوزها
بدل أن يعتمد القانون الجديد على معايير مهنية ووطنية وانتخابية لاختيار أعضاء مجلس القضاء الأعلى، يُوسّع في عدد الأعضاء “الحكميين” – أي الذين يدخلون بحكم مراكزهم – بحجة “الحفاظ على التوازن الوطني”، وهو تعبير ملطّف لإعادة تكريس المحاصصة الطائفية داخل الجسم القضائي. فبدلًا من أن يكون القضاء سلطة موحِّدة فوق الانقسامات، تُعاد صياغته على أساس توازنات مذهبية، تتناقض جوهريًا مع فكرة الدولة المدنية والعدالة المحايدة.
خامسًا: تجاهل فاضح للتوصيات الدولية والمحلية
لم يتوقّف التشويه عند حدود النصوص، بل تعدّاه إلى تجاهل ممنهج للتوصيات التي صدرت عن جهات مرجعية، مثل لجنة البندقية التابعة لمجلس أوروبا، التي شكّلت وزارة العدل لجنة لاستشارتها. كما أغفل القانون اقتراحات نادي قضاة لبنان، وهو الجسم القضائي الذي يُعبّر عن تطلعات شريحة واسعة من القضاة المستقلين. وهذه التوصيات طالبت، على سبيل المثال لا الحصر:
– بضمان الاستقلال المالي والإداري الكامل للقضاء.
– بإسناد التشكيلات القضائية حصريًا لمجلس القضاء الأعلى.
– بتعيين القضاة وترقيتهم على أساس الجدارة فقط.
– بتمثيل شفاف ومتناسب داخل المجالس القضائية.
لكن هذه المبادئ الأساسية جرى تجاهلها أو تمييعها، ما يعكس غياب الإرادة السياسية للإصلاح الحقيقي، ويدفع باتجاه إعادة إنتاج المنظومة نفسها، ولكن بلغة أكثر تهذيبًا.
سادسًا: تكريس الشكوك بدل ترسيخ الثقة
إن القانون كما أُقر، لا يُعيد الثقة بالقضاء بقدر ما يُعزّز الشكوك حول نوايا القوى السياسية الحاكمة. فبدل أن يشكّل قطيعة مع ممارسات الماضي، أعاد تثبيتها في بنود قانونية قابلة للتأويل والتلاعب، وترك ثغرات واسعة يمكن استغلالها للضغط والتدخل في عمل القضاة، سواء عبر الرواتب أو المناصب أو التعيينات.
في المحصلة، لا يمكن اعتبار القانون الجديد نقلة نوعية في اتجاه تعزيز استقلالية القضاء، طالما أنه يبقي على مَواطن الخلل البنيوية نفسها، سواء على صعيد التبعية المالية، أو التدخل في التشكيلات، أو التعيينات المحكومة بالتوازنات الطائفية. في حين أن لبنان لا يحتاج إلى إصلاح شكلي يُجمّل الوجه السياسي للتدخل في القضاء، بل إلى قطيعة كاملة مع ذهنية الهيمنة السياسية على العدالة. فالعدالة لا تُختزل في النصوص، بل في الإرادة السياسية والمؤسسية التي تحمي القضاة وتحرّرهم، وتجعلهم يعملون فقط وفق القانون، وليس وفق رغبات السياسيين. وفي النهاية، إنّ قضاءً محرّرًا من الاعتبارات الفئوية والطائفية هو شرط أساسي لأي نهوض وطني حقيقي، وهو أول الطريق نحو دولة عادلة، حديثة، وقادرة.
د. ابراهيم العرب
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.