“قسد” ضحيّة اللّعبة الأميركية الكبرى!

8

بقلم د.سمير صالحة

«اساس ميديا»

تحتفظ “قوات سوريا الديمقراطية” بدورها الفاعل في المعادلة السوريّة كلاعب محلّي لا يمكن تجاهله، لكنّها تدرك أنّ تجاوزها ليس مستحيلاً، لا سيّما في ظلّ الخطط والحراك الذي تتبعه حكومة الرئيس أحمد الشرع في الداخل والخارج.

تواصل “قسد” مناوراتها مستندةً إلى أوراق القوّة التي تملكها عسكريّاً وجغرافيّاً واقتصاديّاً في شرق الفرات. لكنّ تبدّل التوازنات والمعادلات السياسية لمصلحة الحكم السوري الجديد، المدعوم من قوى إقليمية فاعلة وبعض العواصم العربية والغربية، يفرض عليها تبنّي مقاربة أكثر واقعيّة في خياراتها، إذا ما أرادت الاحتفاظ بموقعها وتأثيرها وتبقى إلى الطاولة.

كيف ستتصرّف “قسد” مثلاً في المرحلة المقبلة على طريق إعادة التموضع، بعدما جرى تحييد ورقة “حزب العمّال الكردستانيّ” من المشهد التركي؟ وهل يكون بمقدورها الحفاظ على ما تملكه من أوراق في مواجهة دمشق، لا سيّما في مطلب إجراء تعديلات على مذكّرة التفاهم الموقّعة بين الرئيس الشرع ومظلوم عبدي في 10 آذار الماضي، بناء على توصيات مؤتمر القامشلي الكرديّ؟

تحوُّل جذريّ

الصواريخ البعيدة المدى التي يوجّهها المبعوث الأميركي توم بارّاك في أكثر من اتّجاه لم يحرم “قسد ” منها أيضاً. فبعدما بنت حساباتها على مواقف المبعوث السابق، بيرت ماكغورك، الذي كان يكرّر دعوات الشراكة “في الدم والميدان” ضدّ “داعش”، ويراهن على “قسد” باعتبارها الشريك الأكثر التزاماً على الأرض، وجدت نفسها فجأة، دون سابق إنذار، ملزمةً بقبول تقليص دورها وأهدافها السياسية من أجل مسار إعادة بناء الدولة السوريّة، ضمن إطار تفاهمات إقليمية ودولية كبرى، لا تملك القدرة على الوقوف في وجهها.

فبينما تصرّ قيادات “قسد” على أنّها تتبنّى فكر عبدالله أوجلان لكنّها غير ملزمة بقراراته، تكرّر واشنطن ودمشق معاً رسالة موحّدة: “الاندماج ممكن، لكن في إطار دولة واحدة وهويّة واحدة.. سوريا اليوم دولة معترَف بها، ومن يريد أن يكون جزءاً منها، عليه أن يقبل بشروطها”.

السؤال الأكثر إلحاحاً يتمحور حول مدى تأثير إنهاء دور “حزب العمّال الكردستاني” في تركيا على المشهد الكردي عموماً، وعلى “قسد” خصوصاً. وهل يبقى مظلوم عبدي على موقفه الذي أعلنه في مطلع آذار الماضي، حين شدّد على أنّ التفاهم مع دمشق لا يعني التفريط بالهويّة أو الاندماج الكامل؟

ما تغيّر لم يكن فقط في الخطاب، بل في الاستراتيجية الأميركية نفسها. سقوط نظام الأسد أسقط معه سياسة واشنطن السوريّة التي اعتمدت طوال عقد على مبدأ تقاسم النفوذ، وإبقاء البلاد بؤرة توتّر مزمنة، تستنزف القوى المحلّية والإقليمية وتحفظ مصالح إسرائيل الأمنيّة والاستراتيجيّة.

لم يكن وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض انتقالاً سلطويّاً وحسب، بل شكّل نقطة تحوّل جذري. فقد قرّر نسف مرتكزات السياسة السابقة، بما فيها استخدام “داعش” ذريعة، والانخراط بدلاً من ذلك في صفقات وتفاهمات مباشرة سياسية واقتصادية مع الحلفاء والشركاء، وتشمل مستقبل إسرائيل وعلاقاتها بدول المنطقة، بما في ذلك سوريا.

في ظلّ هذا التحوّل، لم تعد “قسد” في قلب المشروع الأميركي، بل على هامشه. وتحوّلت من “شريك ميداني لا غنى عنه” إلى طرف قابل للتجاوز أو إعادة التموضع، بحسب ما تقتضيه المصالح الإقليمية الجديدة.

أمر واقع

رفضت قيادات حزب “ديم” في تركيا، الذي يستعدّ لخوض مفاوضات مع حزب العدالة والتنمية في شأن مرحلة ما بعد حلّ “حزب العمّال الكردستاني” وإنهاء رفع السلاح، تصريحات نُسبت إلى شقيق عبدالله أوجلان قال فيها إنّ “قسد” لن تتخلّى عن سلاحها، وإنّ “الرئيس الشرع هو رأس داعش، ولا يمكن التنبّؤ بما سيفعله غداً. وإذا اقتضى الأمر، يمكن لـ”قسد” إعلان الجمهورية الديمقراطية السورية من مدينة الطبقة”.

أعادت هذه التصريحات إلى الواجهة تصريحات سابقة لمظلوم عبدي قال فيها: “لا ضرورة لنزع سلاحنا في حال تطبيق اتّفاق آذار”، وهو يعقّب على ما قاله وزير الخارجية التركي هاكان فيدان من أنّ “قسد ستتخلّى عن السلاح وتنضمّ إلى الجيش السوري الوطني”.

في اللحظة التي كنّا نستعدّ فيها للإعلان أنّ المسألة لم تعد مرتبطة بمن نصدّق، بل بالواقع السوري الجديد الذي يتشكّل على الأرض بدعم محلّي وإقليمي ودولي، خصوصاً بعد سماع المبعوث الأميركي بارّاك يردّد أنّ “الولايات المتّحدة لا تدين لـ”قسد” بإقامة دولة مستقلّة، فهي امتداد لوحدات حماية الشعب، التي تمثّل بدورها امتداداً لحزب العمّال الكردستاني”، إذا بنا نفاجأ بأخبار مواصلة واشنطن فتح خطوط الإمداد والدعم الماليّ والعسكريّ لتُبقي “قسد” في المشهد، وإن بطريقة لا تسمح لها بالصعود السياسي الكامل ولا بالسقوط الكلّيّ.

هناك عواصم غربيّة ترى أنّ “قسد” لا تريد الانفصال عن سوريا ولا تسعى إلى الحكم الذاتي، إلّا أنّها تتغافل عن حقيقة أنّها ما زالت تتمسّك بمشروع اللامركزية والإدارة الذاتية، وتسعى إلى فرضه أمراً واقعاً في شرق الفرات.

ما زال رهان “قسد” قائماً على متغيّرات خارجيّة قد لا تأتي. في المقابل، تتحرّك دمشق، مدعومة بعواصم إقليمية مؤثّرة، لرسم مشهد سوري جديد يُعاد تشكيله دون “قسد”، أو على الأقلّ دون الحاجة إلى مشاركتها أو أخذ موافقتها. هذا دون أن ننسى واقع صعود سيناريو تضييق الخناق على “قسد” كلّما تقدّمت التفاهمات بين أنقرة وعبدالله أوجلان، بالتنسيق مع حزب “ديم”، الذي يبدو مستعدّاً لمرحلة سياسية جديدة في تركيا.

تتقلّص الخيارات في شرق الفرات كلّما تسارعت خطوات الحوار بين “حزب العدالة والتنمية” وحزب “ديم” في أنقرة.

ما يزيد من الضغط على “قسد” اليوم، إلى جانب التحوّلات السياسية والعسكرية، هو الامتعاض العشائري المتزايد في شرق الفرات. هذا الامتعاض لم يعد يقتصر على رفض سلوكيّات فرديّة، بل بات يعكس توجّهاً شعبيّاً عامّاً نحو العودة إلى كنف الدولة السورية، طلباً للأمن والاستقرار والخدمات، ورفضاً لحالة الاستثناء الإداري والسياسي التي تسعى “قسد” إلى فرضها.

فقد وجود السلاح بيد “قسد” مبرّراته كعنصر من عناصر الضغط في المسار السياسي.

والبديل الأوفر حظّاً هو أن تتخلّى “قسد” عن أحلام السيطرة المنفردة، وتقبل بالاندماج الكامل ضمن الدولة السورية، لا كمكوّن فوقها أو خارج عنها.

د.سمير صالحة

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.