قطر.. بعد الضّربة ليست كما قبلها

6

بقلم نديم قطيش

«أساس ميديا»

بين حزيران وأيلول 2025، استُهدفت سيادة قطر من طرفَي النزاع الاستراتيجيّ في الشرق الأوسط: إيران ثمّ إسرائيل. شكّل هذا التطوّر تحوُّلاً جذريّاً في بنية الأمن الإقليميّ وأدوار الدول فيه. فصلت أحد عشر أسبوعاً بين إطلاق إيران صواريخها على قاعدة “العديد” الجوّية الأميركية في قطر، وبين الضربة الإسرائيلية التي استهدفت اجتماعاً لقادة “حماس” في قلب أحد المجمّعات السكنيّة في الدوحة، جعلت من قطر، التي نجحت في بناء صورة “الوسيط المحايد” و”الملاذ الآمن للدبلوماسيّة”، ساحةً مفتوحةً لتصفية الحسابات الإقليميّة.

على مدى عقدين، احترفت قطر سياسة خارجيّة تقوم على الموازنة الحذرة وإدارة شبكة معقّدة من التحالفات المتناقضة لتصنع للإمارة الصغيرة دوراً غير تقليدي بكلّ المقاييس. فهي تستضيف القوّات الأميركيّة في قاعدة “العديد”، بالتوازي مع الحفاظ على علاقات استراتيجيّة وقنوات تواصل مفتوحة مع قوى إقليمية أخرى مثل إيران، أو تنظيمات جهاديّة مثل “القاعدة” و”طالبان”. وهي إحدى أكثر الدول تنسيقاً مع إسرائيل والملاذ الآمن لقيادات حركة حماس. وحتّى بعد مصالحة العُلا، التي أنهت أزمة القطيعة الخليجيّة المصريّة معها، احتفظت الدوحة بعلاقات متينة مع تنظيم الإخوان المسلمين وعديد منصّاته السياسية والإعلامية التي استمرّ بعضها بنشاطه المعتاد. أضف إلى كلّ ذلك أدوار الدوحة في وساطات دبلوماسيّة امتدّت من السودان إلى لبنان وأفغانستان.

نفوذ أكبر من الحجم

منح هذا النهج الدوحة، مدفوعاً بالهيمنة الإعلاميّة لشبكة “الجزيرة” المتعدّدة المنصّات، نفوذاً إقليميّاً يتجاوز بكثير حجمها الجغرافيّ والديمغرافيّ، وجعلها طرفاً لا غنى عنه في عدد لا يحصى من الملفّات المتفجّرة في العالم ومن مساعي تسويتها في آن.

غير أنّ الاستهدافات الإيرانيّة والإسرائيليّة الأخيرة أصابت هذه المعادلة في مقتل، وأظهرت أنّ ما كان يُعدّ “حياداً نشطاً” قد تحوّل في لحظة التصعيد الشامل إلى ثغرة أمنيّة خطيرة، وتحوّل الوسيط من جهة محصّنة نتيجة دور الوساطة إلى هدف مكشوف بسبب الدور وتناقضاته، وهو ما يفرض مراجعة شاملة لأسس السياسة القطريّة وإعادة تعريف الدور وحدوده ومرتكزاته.

لكنّ الدرس الأعمق، لا يخصّ الدوحة وحدها، إنّما يطال دول الخليج كافّة، نتيجة اهتزاز صورة “الحماية الأميركيّة المطلقة”. فكما لم يمنع وجود قاعدة “العديد”، وهي الكبرى من نوعها في المنطقة، هجمات طهران وتل أبيب على أهداف في الدوحة، فليس من سبب للاعتقاد أنّ ظروفاً أخرى لن تنشأ وتسمح بتجاوز المظلّة الأميركيّة والاعتداء على عواصم خليجيّة أخرى.

جاء ردّ فعل واشنطن على الغارة الإسرائيليّة أقرب إلى إدارة الأزمة منه إلى حماية الحليف، تاركاً انطباعاً خطيراً بأنّ الالتزامات الأمنيّة لم تعُد ضماناً مطلقاً، وأنّ الولايات المتّحدة باتت تُوازن بين أولويّاتها الاستراتيجيّة المختلفة بدلاً من تقديم مظلّة حماية غير مشروطة.

يفتح هذا التطوّر الباب أمام دول الخليج للتفكير بجدّية في ترتيبات أمنيّة بديلة أو موازية، سواء بالتقارب مع قوى عالميّة أخرى مثل الصين أو روسيا، أو عبر تعزيز القدرات الذاتيّة، الذي ينطوي على تعقيد العلاقات الخليجية نفسها وعلاقات الخليج بمحيطه إذا انفتح سباقٌ ما للتسلّح الدفاعيّ.

محطّة مفصليّة

في الوقت نفسه تمنح هذه التطوّرات دول الخليج فرصة البحث في سبل إعادة تعريف مجلس التعاون الخليجي وتطوير العلاقات البينيّة للدول الأعضاء فيه وصيغ الأمن الجماعي، وتعزيز الاتّجاه لتضييق الانقسامات بين العواصم الخليجية أكثر.

لم تُقرأ هذه الهجمات بأنّها استهداف للدوحة وحدها، بل طرحت أسئلة خطيرة ومقلقة في الرياض وأبوظبي والمنامة والكويت، بشأن إمكان أن تصير أيّ عاصمة خليجيّة ساحة لتصفية الحسابات.

ما حصل هو تذكير صارخ بأنّ المنطقة الرماديّة تضيق بشكل متزايد، على نحو يبدّد الأسس التي قامت عليها أدوارٌ ومواقعُ بدت في فترات الهدوء والاستقرار النسبيّ امتيازاً، لكنّها أصبحت الآن مخاطرة استراتيجيّة، على صاحب الدور ومحيطه.

لا يعني ذلك أنّ قطر ستتخلّى عن طموحها في لعب أدوار إقليميّة ودوليّة. لكنّ المرحلة المقبلة ستفرض عليها إعادة تعريف هذا الدور، بالشكل الذي يقلّل منسوب المخاطر عليها وعلى بيئتها الاستراتيجيّة.

ليس ضرب قطر حدثاً أمنيّاً، بل محطّة مفصليّة تُدخل منطقة الخليج في مرحلة جديدة، حيث الحصانة لم تعُد مضمونة حتّى للعواصم الأكثر قرباً من واشنطن، وإنذارٌ بأنّنا أمام معادلات أمنيّة وسياسيّة مختلفة، قد تُعيد رسم خريطة التحالفات الاستراتيجيّة في المنطقة لعقود مقبلة.

نديم قطيش

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.