قمّة ألاسكا: أوروبا مذعورة من اتّفاق الكبار

بقلم محمد قواص «أساس ميديا»

2

 

ما الذي طرأ حتّى تمّ تدبير قمّة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين يوم الجمعة المقبل؟ لا شيء تسرّب من اجتماع زعيم الكرملين قبل أيّام مع موفد ترامب، ستيف ويتكوف في موسكو. لكنّ الأرجح أن نقطة قبول مشتركة تقاطعَ زعيما البلدين عندها، وعثرا داخلها على منفعةٍ ما تجيز عقد القمّة التي تأخّرت. ويمكن بسهولة التعرّف على مصالح بوتين من هذا اللقاء الذي وافق أن يكون في ولاية ألاسكا الأميركية التي باعتها الإمبراطورية الروسية للولايات المتّحدة عام 1867. بالمقابل ليس مهمّاً التعرّف على مصالح ترامب، ما دام الرئيس الأميركي يملك مواهب تقديم أيّ نتائج على أنّها انتصار مبهر وغير مسبوق.

يُخرج ترامب “صديقه” بوتين من عزلة فرضتها كلّ العواصم الغربية منذ أن أطلق “العمليّة الخاصّة” (المسمّى الذي اختاره لحربه) ضدّ أوكرانيا، منذ شباط 2022. لم يتوقّع الزعيم الروسي أن يعامله هذا الغرب معاملة قاسية تختلف عمّا اعتاده منهم في السابق، حتّى حين ارتكب ما يمكن لهذا الغرب أن يعتبره من الخطايا التي لا تغتفر. غضّ الغرب الطرف حين فتك بوتين بالشيشان في حربين عامَي 1994 و1999. فرض عقوبات معتدلة حين غزا جورجيا عام 2008، وفعلوا ذلك أيضاً حين احتلّ شبه جزيرة القرم عام 2014.

انسداد خطير

يتذكّر بوتين أنّه بعدما فعل ما فعل، في القرم، فتح له الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بعد 3 سنوات في عام 2017، أبواب قصر فرساي الذي لا يُفتح عادة إلّا لتكريم كبار الضيوف وإضفاء تميّز نوعيّ لافت في علاقة البلدين. قبل ماكرون، فعلت الأمر عينه عام 2016 المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، فأحاطته في برلين بكلّ طقوس المودّة والاستقبال، وهو الذي يتكلّم الألمانيّة بطلاقة. حتّى الرئيس الأميركي السابق جو بايدن الذي وصف يوماً بوتين بـ “القاتل”، التقى الزعيم الروسي في جنيف عام 2021. وفي الهمس أنّ ذلك الترحيب الذي وجده بوتين لدى قادة الغرب هو الذي أغراه بالزحف نحو أوكرانيا. وفي الهمس أيضاً، وجد عشّاق نظريّات المؤامرة أنّ ذاك “الدلال” كان هدفه استدراج الزعيم الروسيّ إلى الحرب التي لم يخرج منها في أوكرانيا.

والحال أن انسداداً خطيراً وصلت إليه الحرب في قلب أوروبا ولا خروج منها إلّا بحرب كبرى، قد تكون عالميّة نوويّة وفق ما درجت موسكو على ترديده على مسامعنا، أو بتحرّك نوعيّ مفاجئ وخلّاق على منوال ما تَعِدنا به القمّة الروسية الأميركية. وعلى الرغم من أنّ المناسبة قد تكون حاجة روسيّة تعيد الزعيم الروسي إلى طاولة الشركاء الكبار في تقرير مصير العالم، تبدو في الشكل استماتة من الرئيس الأميركي لتحقيق مبتغى تعثّر طويلاً، ويبدو حصوله من المواعيد التي يهواها ويهيم بما تنتجه من صوَر “خالدة” في ألبوم إنجازاته.

سيكون صعباً اعتبار القمّة سبيلاً لإنهاء “عادل” للحرب. حتى إنّ خفّة منفّرة أحاطت بظروف ارتجال توقيت للحدث من خارج أيّ سياق. كان ترامب قد وافق على إرسال دفعات جديدة من الأسلحة الأميركية بمليارات من الدولارات إلى أوكرانيا (على حساب الأوروبيّين)، ثمّ انتزع من رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين (التي “زحفت” للّقاء به في اسكتلندا على هامش افتتاحه لملاعب غولف)، اتّفاقاً يفرض على الأوروبيّين شراء أسلحة من الولايات المتّحدة والاستثمار هناك بمليارات أخرى. لكنّ “الأفظع” من ذلك أنّ ترامب يأتي لملاقاة صديقه بعد أيّام فقط من إرساله غوّاصتين نوويّتين صوب التخوم الروسيّة.

سيبتسم بوتين كثيراً داخل القاعة التي ستجمعه بالصديق الذي تمنّى عودته إلى البيت الأبيض من جديد. احتارت العواصم الغربية أثناء ولاية ترامب الأولى في تلك العدوانية التي عبّر عنها ضدّهم (لا سيما الاتّحاد الأوروبي وتحالف الناتو)، وفي الحميميّة المثيرة للعجب التي أظهرها لبوتين ثمّ لزعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون. سيتذكّر الرجلان لقاءهما في 16 تمّوز عام 2018 في هلسنكي بعد 7 أشهر من تسلّم ترامب ولايته الأولى. عقد الزعيمان خلوة اقتصرت عليهما ومترجمين فقط. وقالت صحف الولايات المتّحدة حينها إنّ “أميركا لا تعرف ماذا دار بين الرجلين”.

ذاكرة موجعة

هل يريد ترامب فعلاً إنهاء حرب أوكرانيا وتخليص أوروبا من شرور تتربّص بها؟

سيكون بوتين سعيداً أن يبرم اتّفاقاً بين “الكبار” لا يحضره الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي المعنيّ مباشرة بمآلات هذه الحرب، ولا تحضره أوروبا الكارهة لأيّ صفقات بشأن أمنها فيما مستقبلها يتقرّر من وراء ظهرها بين الزعيمين. يعرف بوتين ويعلن ما يريد: اعترافٌ بروسيّة القرم والأقاليم الأربعة (لوغانسك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون التي يسيطر الجيش الروسي على معظمها). بالمقابل يعلن زيلينسكي رفض تخلّي بلاده عن أراضيها، فيما أوروبا التي باتت تعتبر روسيا العدوّ الاستراتيجي الأوّل لا تدعم صفقة تُذعن للأمر الواقع الذي يريده بوتين للقارّة.

لسان حال أوروبا يقول إنّ إرضاء بوتين ببعضٍ من أوكرانيا يستدرج ذاكرة موجعة تعود إلى فاجعة الحرب العالمية الثانية. أفتى حينها ساسة في فرنسا وبريطانيا وإيطاليا بإرضاء هتلر ببعضٍ من تشيكوسلوفاكيا فأبرموا معه اتّفاق ميونيخ عام 1938. عاد الجميع سعيداً مغتبطاً بصفقة سلم. غير أنّ هتلر باشر احتلال كلّ أوروبا بعد 6 أشهر. طبعاً لا شيء يقارن هذا الزمن بذاك، لكنّ من الصعب تصديق أنّ شروط عمل النظام الدولي تتيح بهذه البساطة اختراع “يالطا” جديدة على منوال تلك التي جمعت في شباط 1945 ثلاثة كبار (ستالين، تشرشل وروزفلت) لإدارة عالم، بتحديثات متتالية، ما نزال نعيش في كنفه حتّى اليوم.

محمد قواص

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.