كركوك – جيهان: حكاية إبريق… النّفط!

3

بقلم د.سمير صالحة

«اساس ميديا»

تكرّرت، منذ نحو عامين تقريباً، التصريحات والمواقف التي تؤكّد أنّ الخلافات النفطية بين العراق وإقليم كردستان وتركيا قد تمّ تجاوزها، وأنّ إعادة تشغيل صمامات خطّ كركوك – جيهان لتصدير النفط العراقي عبر الأراضي التركيّة باتت وشيكة. ومع ذلك، لم تُترجم هذه الوعود إلى خطوات عمليّة حتّى اليوم.

جملة من المؤشّرات السياسية والاقتصادية المتراكمة تستدعي التوقّف عندها لفهم تعقيدات هذا الملفّ، وما ينطوي عليه من تناقضات في المسار التركي – العراقي:

في منتصف آب من العام الماضي، وقّعت أنقرة مذكّرة تفاهم للتعاون العسكري والأمنيّ ومكافحة الإرهاب مع العراق، وهي خطوة جاءت بعد أشهر فقط من “اتّفاق الإطار الاستراتيجي للتعاون المشترك”، الذي أُبرم خلال زيارة الرئيس التركي رجب طيّب إردوغان لبغداد في نيسان 2024، وجرى الحديث حينئذٍ عن شراكة إقليمية واسعة النطاق، مركزها “خطّ التنمية العراقي”.

تساؤلات جوهريّة

على الصعيد الاقتصادي، تجاوزت الصادرات التركيّة إلى العراق 13 مليار دولار خلال العام الماضي، فيما سجّل حجم التبادل التجاري بين البلدين رقماً قياسيّاً بلغ 18 مليار دولار.

في المقابل، أعلن وزير الطاقة التركي، ألب أرسلان بيرقدار، في أواخر تمّوز الماضي، أنّ مسوّدة اتّفاق جديد بشأن خط أنابيب النفط الخام بين العراق وتركيا تمّ إرسالها إلى الجانب العراقي لبحثها. وقال: “فرص التعاون التجاري مع العراق ستصل إلى 40 مليار دولار سنويّاً إذا ما تمّ تشغيل خطّ كركوك – جيهان بكامل طاقته اليوميّة، أي حوالي مليون ونصف مليون برميل يوميّاً”. في السياق نفسه، صرّح وزير النفط العراقي، حيّان عبد الغنيّ، بأنّ استئناف تصدير النفط العراقي الخام عبر ميناء جيهان سيبدأ خلال يومين، وهو ما أوحى بأنّ التفاهمات وصلت إلى مراحلها النهائية.

لكن أعلنت الرئاسة التركية على نحو مفاجئ في 21 تمّوز الماضي إنهاء العمل باتّفاقات خطّ أنابيب النفط الموقّعة مع العراق منذ عام 1973، بما فيها البروتوكولات ومذكّرات التفاهم المرتبطة بها، وذلك ابتداءً من تمّوز 2026. وهو قرار يفتح الباب أمام جملة من التساؤلات الجوهرية: لماذا تُقدم أنقرة على خطوة كهذه في توقيتٍ تشهد فيه العلاقات بين البلدين تحسّناً ملحوظاً؟ وهل يعكس ذلك خلافاً خفيّاً على الشروط الجديدة لتشغيل الخطّ، أم هو جزء من محاولة تحريك أوراق ضغط ثنائية تتداخل فيها المصالح الاقتصادية مع الملفّات السياسية والأمنيّة الإقليميّة؟

دخلت تركيا في الأعوام الأخيرة في عمليّة حسابات استراتيجيّة دقيقة ومعقّدة تمزج بين الاقتصاد والسياسة والأمن في علاقاتها مع بغداد وإربيل. فقد سمحت لحكومة إقليم كردستان بتصدير النفط عبر خطّ أنابيب كركوك – جيهان إلى الأسواق العالمية لسنوات طويلة، حتّى عام 2023، دون العودة إلى الحكومة الاتّحادية العراقية، فلجأت بغداد إلى التحكيم الدوليّ للدفاع عن حقوقها.

قبلت أنقرة هذا التحدّي منذ البداية، وهي تغامر بانفتاح سياسيّ وتجاريّ مع حكومة إقليم كردستان، وتعرف جيّداً أنّ الثمن المقابل الذي قد تدفعه سيكون مكلفاً. فعندما كانت تركيا تستعدّ للطعن بقرار محكمة التحكيم الدولية في باريس، الذي يُقرّ بتعويضات ماليّة للجانب العراقي تصل إلى مليار ونصف مليار دولار، بسبب تسهيل تركيا نقل نفط إقليم كردستان عبر أراضيها وبيعه في الأسواق العالمية في الفترة الواقعة بين عامَي 2013 و2018، كانت وزارة النفط العراقية تضع اللمسات الأخيرة على ملفّ تحكيم جديد يشمل الفترة الواقعة بعد عام 2018 حتّى عام 2024، وهو ما يعني مطالبة تركيا بدفع تعويضات جديدة تصل إلى مليارات الدولارات، غير عابئة بقرار تركيا وقف عمليّات الأنبوب في آذار 2023.

تفاهم سريع؟

تهدف أنقرة، من خلال قرارها إيقاف خطّ النفط مع بغداد واستبداله باتّفاق أكثر شمولاً، إلى تحقيق مجموعة من الأهداف السياسية والاقتصادية الحيويّة، أبرزها:

1- التوصّل إلى اتّفاق نفطيّ جديد ذي محتوى بديل يراعي المتغيّرات التي طرأت خلال العقود الخمسة الماضية.

2- العمل على تجميد أو إغلاق ملفّ التحكيم الدولي، لا سيما بعد الدعوى العراقية الثانية أمام محكمة باريس، وحسم مسألة لجوء بغداد إلى المسارات القانونية في الملفّ.

3- توسيع آفاق التعاون الطاقيّ مع العراق، بما يتجاوز دور تركيا أن تكون ممرّاً لتدفّقات النفط الخام، لتصبح شريكاً فعليّاً في قطاعات استراتيجيّة. وتندرج ضمن هذا الإطار مساعي أنقرة لإدراج مشروع خطّ أنابيب جديد يمتدّ من البصرة إلى سيلوبي ليكون جزءاً من مشروع “طريق التنمية العراقي”.

4- رفع الطاقة التشغيلية لخطّ كركوك – جيهان إلى سعته القصوى البالغة 1.5 مليون برميل يوميّاً، بدلاً من المعدّل السابق البالغ 500 ألف برميل، بما يسهم في رفع أرقام الفوائد المتبادلة.

قد تذهب قناعة الكثيرين في الداخل العراقي باتّجاه التفاهم السريع مع أنقرة تجنّباً للمزيد من الخسائر المادّية، إذ إنّ إغلاق خطّ جيهان أدّى إلى خسائر ماليّة تُقدّر بنحو 10 مليارات دولار حتّى منتصف عام 2025. لكنّ أنقرة تدرك جيّداً أنّها إذا ما قرّرت التصعيد مع الجانب العراقي عبر التلويح بورقة خطّ كركوك – جيهان، فإنّ بغداد أيضاً تمتلك بدائل وأوراقاً عديدة لتصدير مواردها، منها: ميناء البصرة، وتفعيل خطّ بانياس مع سوريا وصولاً إلى لبنان سيكون بين الخيارات المطروحة اليوم.

تتطلّع تركيا عبر تحريك ورقة هذا الخطّ إلى إعادة صياغة العلاقة النفطية مع العراق على أسس جديدة تضمن لها مكاسب اقتصادية أكبر، بينما تسعى السلطة السياسية في بغداد إلى الإمساك بتفرّعات الملفّ، وعدم تكرار تجربة عام 2014، التي تحوّلت إلى فرص تنسيق وتعاون استراتيجيّ بين أنقرة وإربيل على حسابها.

تجديد الاتّفاق القديم بعد إدخال بعض التعديلات عليه هو السيناريو الأرجح، خاصّة مع تأكيد وزير الطاقة التركيّ استعداد بلاده لتمديد اتّفاق عام 1973 مع إدخال تعديلات قانونية وتوسيع مآلات التعاون النفطي بين البلدين، وذلك وسط أجواء الانتخابات العراقية المرتقبة بعد 3 أشهر، التي من المستبعد أن تتمكّن الحكومة أو البرلمان من تحقيق شروط عقد اتّفاق جديد لتصدير النفط العراقي عبر تركيا خلالها.

د.سمير صالحة

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.