لا تعبدوا ربَّين: الله والمال

4

بقلم دافيد عيسى

المال صار إلهًا جديدًا… والضمير استقال في بلدٍ أنهكته الحروب والأزمات، فالفساد لم يعد يقتصر على السياسة والإدارة، بل تسلّل إلى لقمة العيش نفسها.

بات الغشّ في الغذاء جريمة يومية تمسّ صحة الناس وحياتهم، فيما يغيب الضمير خلف حسابات الربح والجشع.

كلّ يوم نسمع في وسائل الإعلام وعلى صفحات الصحف عن فضيحة غذائية جديدة لحوم فاسدة، ألبان وأجبان منتهية الصلاحية، منتجات ملوّثة، أدوية مزورة تُباع في الأسواق وكأنّ حياة الناس لا تساوي شيئًا.

صار المال عند البعض أهمّ من الإنسان نفسه.

الجشع تغلّب على الضمير، والربح صار أغلى من القيم والمبادئ.

في بلدٍ اعتاد شعبه على دفع أثمان الفوضى، تطفو اليوم على السطح قضية أخطر من الأزمات الاقتصادية والمعيشية قضية المواد الغذائية الفاسدة والأدوية المزورة.

ما نسمعه من ملفات غشّ في الغذاء والدواء وغيره ليست حادثة عابرة، بل كارثة أخلاقية تمسّ حياة الناس.

والسؤال الصعب هو: أين الضمير؟

كيف يستطيع إنسان أن يبيع طعامًا يعلم أنه قد يؤذي الآخرين؟ كيف يستطيع آخر ان يبيع دواء مزور لمريض؟ كيف ينام مطمئنًّا وهو يدرك أن منتجه الملوّث قد يسمّم طفلًا أو يمرض مسنًّا أو يؤذي عائلة بأكملها؟

أيّ ضمير يسمح للمال أن يكون أغلى من الإنسان، وللربح أن يكون أقدس من الحياة؟

ما يجري في بعض الأسواق اللبنانية من بيع أغذية وادوية فاسدة أو منتهية الصلاحية هو جريمة واضحة بحق المجتمع.

الغذاء والدواء هما مصدر للحياة، ومن يتلاعب بهما يعبث بأقدس ما لدى الإنسان.

الغشّ في الطعام والدواء ليس مخالفة قانونية فقط، بل خيانة للأمانة.

كلّ الأديان حرّمت الغشّ والخداع، خصوصًا فيما يمسّ صحة الناس.

أليس ربّنا من قال: «لا تعبدوا ربَّين، الله والمال»؟

أيّ ضميرٍ هذا الذي يجعل تاجرًا يقدّم سمًّا للناس مغلّفًا بعلامة تجارية لامعة؟ أليس هذا قتلًا للأخلاق والقيم التي بُنيت عليها مجتمعاتنا؟

المسؤولية لا تقع على جهة واحدة.

هي مسؤولية الوزارات والجهات الرقابية التي عليها واجب المراقبة والتفتيش، كما هي مسؤولية المواطن الذي يجب أن يكون واعيًا لما يشتريه ويستهلكه.

على الوزارات أن تتحقّق بدقّة قبل إصدار قراراتها، عبر فحوص دقيقة تمنع الظلم عن التاجر وتحمي سمعة الإنتاج اللبناني.

بهذه الطريقة نحمي صادراتنا من المنع في الدول العربية والأوروبية، ونحافظ على ثقة الأسواق بمنتجاتنا.

على المستهلك أن يرفض الصمت، وأن يُبلِغ عن أيّ تلاعب أو شكّ في سلامة منتج غذائي او دواء.

وعلى التاجر الشريف أن يعتبر الأمانة رأس ماله الحقيقي، فلا يساوم على صحة الناس مهما كانت الإغراءات.

أما المسؤولون فعليهم تشديد العقوبات، وإغلاق أبواب التسويات والمحسوبيات التي تحمي الفاسدين وتعيدهم إلى الساحة بعد كلّ فضيحة.

لكنّ ذلك لا يكفي.

على الدولة أن تتحمّل كامل مسؤولياتها في هذا الملف الخطير، وأن تُحيل كلّ من يثبت تورّطه في بيع أو توزيع الغذاء الفاسد او الدواء المزور او المنتهي الصلاحية إلى القضاء فورًا، ليُحاكم علنًا وينال عقابه العادل والرادع.

من يعبث بصحة الناس لا يستحقّ الرأفة، ولا يجوز التساهل معه بأيّ شكل.

السكوت عنهم مشاركة في الجريمة، وحمايتهم خيانة للعدالة ولضمير الوطن.

ما نعيشه اليوم ليس مجرد فساد في الأسواق، بل انهيار في منظومة القيم.

من يبيع الغذاء الفاسد والدواء المزور لا يسرق المال فقط، بل يسرق حياة الناس.

لقد آن الأوان لوقفة ضمير وطنية تتخطّى التصريحات والحملات الموسمية.

مواجهة الغذا الفاسد والدواء المزور مسؤولية الجميع: الدولة، المواطن، التاجر، الصيدلي، والإعلام.

كلّ من يملك ضميرًا يجب أن يتحرّك.

عندما يرفض الناس الغش، ويتصرّف التجار بضمير، وتعمل الرقابة بصدق، ويُحاكم الفاسدون من دون حماية أو محسوبيات، عندها فقط نستعيد الثقة بأنّ في هذا البلد ضميرًا حيًّا.

دافيد عيسى

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.