لبنان: التّفاوض المباشر أو توسعة دور اليونيفيل أو الحرب
بقلم جوزفين ديب
«أساس ميديا»
تواجه الدولة اللبنانية عند مفترق طرق تاريخي ثلاثة سيناريوهات محتملة، لها تبعات سياسية وأمنيّة عميقة. يأتي ذلك في ظلّ تصاعد التوتّر مع إسرائيل وتبدّل قواعد اللعبة بعد الحرب الأخيرة عام 2024، وما خلّفته من دمار وخسائر بشريّة جسيمة. في ما يلي هذه السيناريوهات الثلاثة بالتفصيل، مع تحليل آثار كلّ منها على الاستقرار السياسي والأمنيّ في لبنان.
السّيناريو الأوّل: مفاوضات مباشرة مع إسرائيل
يتمثّل هذا السيناريو في جلوس لبنان وإسرائيل إلى طاولة مفاوضات مباشرة للتوصّل إلى ترتيبات واتّفاقات تنهي حالة العداء رسمياً بين البلدين. برزت أخيراً بوادر إطلاق مسار دبلوماسي برعاية الولايات المتّحدة، يتضمّن تشكيل مجموعات عمل ثلاثية للتفاوض في ثلاث قضايا عالقة: الخلافات الحدودية البرّية بين لبنان وإسرائيل، ملفّ الأسرى اللبنانيين لدى إسرائيل، وملفّ النقاط المتنازع عليها على طول الخطّ الأزرق.
يُنظر إلى هذا المسار على أنّه ارتقاء بالتفاوض من المستوى الفنّي العسكري إلى المستوى الدبلوماسي، في محاولة للوصول إلى حلّ جذريّ للصراع. ويهدف هذا الطرح إلى إنهاء الوضعية العسكرية لـ”الحزب” خارج إطار الشرعية اللبنانية وحصر السلاح بيد الدولة.
بعد حرب 2024 وما تلاها من ترتيبات ميدانيّة، تعمل الولايات المتّحدة وإسرائيل على نزع ذرائع المقاومة المسلّحة عبر تحرير كلّالأراضي اللبنانية المحتلّة وحلّ القضايا العالقة دبلوماسياً. في المقابل، سيكون مطلوباً من لبنان الالتزام بتنفيذ الشقّ الأمنيّ من القرار 1701 المتمثّل ببسط سلطة الدولة على كامل الأراضي ونزع سلاح “الميليشيات”.
من الناحية السياسية الداخلية، يواجه هذا السيناريو تحدّيات كبيرة، إذ إنّ الدخول في مفاوضات سلام مباشرة مع إسرائيل يُعدّ خطوة غير مسبوقة منذ عقود وقد يُثير انقساماً داخليّاً حادّاً. فـ”الحزب”وحلفاؤه يرفضون مبدأ التطبيع أو عقد اتّفاقات ثنائية مع إسرائيل من دون حلّ شامل للقضيّة الفلسطينية.
أمنيّاً، نجاح هذا السيناريو سيعني إرساء هدنة دائمة أو اتّفاق سلام يخفّف احتمالات الحرب لمدى طويل، وينقل المواجهة من الميدان العسكري إلى الساحة الدبلوماسية والقانونية. لكنّ الفشل في تحقيق توافق داخليّ على شروط التسوية قد يولّد توتّرات داخلية، وربّما يدفع الأطراف الرافضة إلى تعطيل أيّ اتّفاق يتمّ التوصّل إليه. بالتالي، يحمل السيناريو التفاوضيّ وعداً باستقرار طويل الأمد، لكنّه مشروط بتسويات مؤلمة وتنازلات متبادلة قد لا تكون سهلة على جميع الأطراف.
السّيناريو الثّاني: توسعة دور “اليونيفيل”
يقترح السيناريو الثاني تعزيز الدور الدولي في لبنان عبر توسيع ولاية قوّة الأمم المتّحدة المؤقّتة في لبنان (اليونيفيل) ودمج مهامّها مع آليّات مراقبة وقف الأعمال العدائية، بحيث تشمل مهامّها كلّ الأراضي والحدود اللبنانية لا جنوب الليطاني فحسب. عمليّاً، يعني ذلك توسيع تفويض “اليونيفيل” ليطال مراقبة الحدود اللبنانية مع كل من إسرائيل وسوريا، وتكليفها بمهامّ عملانيّة مشتركة مع الجيش اللبناني لضبط الأمن ومنع تهريب السلاح عبر الحدود.
لكن، يبدو الطرح مستبعداً جداً لا سيما أنه يتزامن مع بحث مجلس الأمن الدولي تجديد ولاية “اليونيفيل” في آب 2025، ومع ممارسة واشنطن وتل أبيب ضغوطاًلتعديل قواعد عمل “اليونيفيل” أو إلغائها. و ترى الولايات المتّحدة وإسرائيل أنّ تجربة “اليونيفيل” خلال 18 عاماً أخفقت في منع “الحزب” من تعزيز ترسانته جنوب الليطاني، لا سيما أنّ حرب 2024 كشفت عن شبكة أنفاق ومواقع قتالية واسعة لـ”الحزب” لم تتمكّن القوّات الدولية من رصدها أو الإبلاغ عنها.
بناءً على ذلك، في آب المقبل، لوّحت الولايات المتّحدة ضمنيّاً بأنّها لن تقبل تجديد التفويض من دون تعديلات جوهرية، وقد تستخدم حقّ النقض (الفيتو) إذا لم تُلبَّ شروطها الجديدة. بل ذهب بعض المسؤولين الأميركيين إلى ربط بقاء “اليونيفيل” بتحقيق تقدّم ملموس في نزع سلاح “الحزب”، وهو ما يعني وضع لبنان أمام خيار صعب: إمّا القبول بتوسعة مهمّة القوّة الدولية وفق الرؤية الأميركية (أي بالتعاون مع “الميكانيزم”)، أي مواجهة سلاح “الحزب”، أو المخاطرة بإنهاء مهمّة “اليونيفيل” وترك فراغ أمنيّ خطير جنوباً.
سيناريو إشكاليّ
سياسيّاً، يُعتبر هذا السيناريو إشكاليّاً، فقبول لبنان بتفويض أمميّ واسع النطاق قد يُفسَّر محلّياً بأنّه انتقاص من السيادة وإخضاع القرار الأمنيّ الداخلي لإشراف خارجي. وقد عبّرت الدولة اللبنانية مراراً في الأمم المتّحدة عن القلق من أيّ صيغة تُشبه الفصل السابع وفرض إجراءات دون موافقتها . وأكّد ممثّلو لبنان أنّ وجود “اليونيفيل” يأتي بطلب لبناني ووفق الفصل السادس (عمليّات حفظ سلام)، وليس كقوّة مفروضة رغماً عن إرادته. وشدّدوا على أنّ دور “اليونيفيل” أصلاً هو نتيجة استمرار النزاع مع إسرائيل وليس سبباً له.
أمنيّاً، إنّ تمكين القوّات الدولية من العمل بحرّية أوسع قد يساهم في كشف ومنع الأنشطة العسكرية غير الشرعية جنوباً وعلى الحدود الشرقية، وهو ما يعزّز سلطة الجيش اللبناني نظريّاً. لكنّه في الوقت عينه يحمل خطر الاحتكاك المباشر مع الأهالي وعناصر “الحزب”.تماما كما حصل في الحوادث الأخيرة جنوبا. وبالتالي أيّ زيادة لنفوذ “اليونيفيل” ميدانيّاً قد تقابلها مقاومة أهليّة وربّما مسلّحة إذا اعتُبر أنّها تقيّد حركة المقاومة على أرضها. ومن جانب آخر، إنهاء نهج التنسيق المعمول به حاليّاً قد يضع القوّات الدولية نفسها في موقع خطر أمنيّ ويجعلها عرضة لاستهداف مباشر عند حصول مواجهة مع “الحزب”.
لذلك هذا السيناريو محفوف بالهشاشة: نجاحه يتطلّب توافقاً دوليّاً صارماً وضمانات لحماية لبنان من أيّ خروقات إسرائيلية أيضاً، وفشله قد يؤدّي إلى تصعيد لا تُحمد عقباه.
السّيناريو الثّالث: مواجهة عسكريّة شاملة
يتمثّل السيناريو الثالث في انهيار الترتيبات القائمة واندلاع مواجهة عسكرية واسعة النطاق بين إسرائيل و”الحزب”، وربّما تحوّل الجنوب اللبناني مجدّداً إلى ساحة حرب مفتوحة. هذا السيناريو قد يحدث إمّا نتيجة فشل المسارَين السابقَين (الدبلوماسي والدولي) في تحقيق حلول مستدامة، أو بفعل حادث أمنيّ مفاجئ يشعل شرارة صراع لا يمكن احتواؤه.
مشهد من الدمار الواسع النطاق لحِق بإحدى القرى اللبنانية الحدودية خلال الحرب الإسرائيلية- اللبنانية عام 2024. خلّفت هذه المواجهة الشاملة أضراراً هائلة في البنية التحتيّة ومآسي إنسانية جسيمة.
إنّ عودة شبح حرب مماثلة، أو أشدّ، تظلّ احتمالاً قائماً ما لم يجرِ تثبيت الاستقرار عبر أحد المسارات السلميّة أعلاه.
في المحصّلة، يجد لبنان نفسه أمام مفترق خيارات مصيرية لكلّمنها أثمانه ومخاطره. المسار التفاوضي السلميّ يحمل أملاً بإنهاء حالة الحرب الدائمة وإنعاش الاقتصاد عبر تطبيع الأوضاع، لكنّه يتطلّب توافقاً لبنانياً داخلياً غير متوفّر حاليّاً وتنازلات قد تكون صعبة الهضم شعبيّاً. مسار توسيع الدور الدولي قد يوفّر حلّاً وسطاً مؤقّتاً عبر ضبط الأمن بمنظومة رقابة خارجية، لكنّه يواجه معارضة من أجل السيادة، وقد يؤجّج التوتّر مع “الحزب” ما لم يُنفَّذ بحذر وتوافق. أمّا خيار الحرب فهو الأسوأ نتيجةً والأعلى كلفة، وعلى الرغم من أنّه قد يُفرض على لبنان قسراً إذا فشلت باقي المسارات، إلّا أنّ تجنّبه يجب أن يكون أولويّة قصوى لصنّاع القرار.
جوزفين ديب
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.