لبنان بين النار او التسويات الممكنه؟
بقلم اللواء الدكتور عبداللطيف بن محمد الحميدان
يواجه لبنان لحظة تاريخية تتقاطع فيها حسابات الداخل مع عواصف الإقليم وتتزاحم فيها أسئلة الدولة والسلاح والشرعية والاقتصاد والمجتمع في عقدة واحدة يصعب تفكيكها فالمشهد يقوم على معادلة بسيطة في ظاهرها معقدة في عمقها وهي إما أن تحتكر الدولة قرار السلم والحرب وإما أن يبقى البلد في حالة استنزاف بطيء يراكم الخسائر ويعيد إنتاج موازين القوة ذاتها.
في جوهر الإشكال يتقدم سؤال القدرة قبل سؤال النية فهل تمتلك مؤسسات الدولة ما يكفي من القوة الشرعية والعملية لانتزاع حصرية السلاح من على كافة الأراضي اللبنانيه أم أن ميزان القوة الميداني والسياسي يميل لمصلحة القوى التي تمتلك السلاح خارج إطارها إذ إن السلاح في البيئة اللبنانية ليس مجرد أداة عسكرية بل شبكة مصالح وأمن اجتماعي وانتماء عقائدي ورافعة تمثيل تفاوضي وكل هذه الدوائر تمنح حامليه شعوراً بأن التخلي عنه يساوي فقدان الأمان والتأثير ولذلك فإن الحديث عن نزع السلاح دون مقايضة كبرى يبدو أقرب إلى الرغبة منه إلى الخطة القابلة للتنفيذ .
يأتي العامل الإقليمي ليضاعف التعقيد فلبنان بحكم موقعه وحدوده وتشابك ساحاته مع جبهات أخرى يتحول إلى ساحة ضغط ورسائل متبادلة بين قوى أكبر وكلما ارتفع منسوب التوتر في الإقليم صغرت قدرة السلطة اللبنانية على التحكم بإيقاع الداخل وتضخم وزن الحسابات الخارجية على حساب التسويات المحلية وهنا تصبح أي محاولة لحصر السلاح رهناً بموازين تتجاوز بيروت إلى عواصم متشابكة المصالح والرهانات .
اقتصادياً يعيش البلد على هامش التعافي الهش فانهيار المؤسسات والعملة والبنى التحتية المالية جعل المجتمع مرهقاً ومرتخياً ما يضعف قدرة الدولة على تمويل مؤسساتها الأمنية ويحد من جاذبية الانخراط الحصري في أطرها الرسمية وعندما يتراجع الأجر والهيبة والجاهزية تتسع الفجوة بين الأمن الرسمي والأمن الموازي فينشأ واقع رمادي يعتاد عليه الناس فيصبح الانتقال إلى احتكار شرعي كامل شاقاً وباهظ الكلفة .
واجتماعياً تنغرس قضية السلاح في عمق هوية جماعات متعددة ترى فيه حصانة ردعية في مواجهة أخطار حقيقية أو متخيلة وحين يتحول السلاح إلى عنصر من سردية الوجود يصبح انتزاعه مشروطاً بضمانات ملموسة لا بشعارات عامة ضمانات تمس الأمن والتمثيل والمشاركة في القرار وتعيد توزيع الثقة بين الدولة ومواطنيها ولذلك فإن أي مقاربة تقنية لملف السلاح من دون هندسة سياسية واجتماعية واسعة لن تنتج سوى هدنة قصيرة تسبق جولة توتر جديدة لما للجماعات المسلحة من تاثير مباشر على الأوضاع في لبنان .
أما على مستوى السيناريوهات فهناك مسار تفاوضي طويل يقوم على مقايضة مركبة حصر السلاح تدريجياً مقابل منظومة أمن وطني واضحة وإصلاحات دستورية وإدارية تضمن الشراكة وتوازن السلطات وتعيد بناء مؤسسات الجيش والأمن والقضاء والمالية العامة مع رزمة دعم دولي جادة تؤمن التمويل والغطاء السياسي وهذا المسار يتطلب وقتاً وإرادة وبيئة إقليمية تهدأ لا أن تشتعل .
ويقف في المقابل سيناريو الاستنزاف المفتوح حيث يواصل البلد العيش بين خطوط تماس منخفضة الشدة ترتفع وتهبط وفق نبض الخارج بينما يتآكل ما تبقى من الاقتصاد والخدمات ويهاجر الشباب وتضعف طاقة المجتمع على التماسك ومع الزمن تتحول الهدنات المتقطعة إلى نظام حياة يتكيف معه الجميع لكنه يبقي الدولة ضعيفة والسلاح موزعاً والقرار مجزأ .
ولهذا توجد أيضاً مقاربة ثالثة تجمع أدوات الردع مع مسار اندماج تدريجي إذ تبقى القدرات الخاصة تحت سقف عقيدة دفاع وطني واضحة ومعلنة ومراقبة برلمانية وقضائية وموازنات شفافة وتكليف عملياتي محدد بزمان ومكان ومعايير اشتباك متفق عليها إلى أن تنضج الشروط السياسية لاحتكار كامل لكنها تحتاج إلى ثقة استثنائية بين المؤسسات والقوى الفاعلة وهذه الثقة نادرة من دون إنجازات ملموسة في مكافحة الفساد وإعادة بناء الإدارة وتحسين شروط العيش .
والمخرج الواقعي يبدأ بإعادة تكوين الشرعية عبر عقد اجتماعي لبناني يحدد وظيفة الدولة وحدودها ويعطي مؤسساتها موارد مستقرة ويقرر بوضوح علاقة لبنان بصراعات الإقليم ثم يتدرج في مسار دمج وتسريح وإعادة تأهيل على أسس مهنية وعادلة مع حماية اجتماعية لمن يتأثرون بهكذا انتقال وتواكب ذلك أمور صعبة من إصلاح القضاء والمالية ومنظومة الكهرباء والمرافئ ومن دون هذه الحزمة يصبح الكلام على الحصرية مجرد أمنية حسنة النية .
وفي الخلاصة لا تملك الدولة اليوم القدرة الكاملة على سحب السلاح دفعة واحدة ولا الأطراف المعنية التي تمتلك السلاح على كافة الأراضي اللبنانيه بانها ستوافق مجاناً فالكلفة ستدفع لا محالة إما كلفة تفاوض وتسويات وضمانات وإصلاحات وإما كلفة استنزاف طويل يعيد إنتاج نقطة البداية والاختيار بين الكلفتين هو جوهر السياسة في لبنان اليوم والنافذة ما زالت مفتوحة لكنها تضيق كلما طال الانتظار.
اللواء الدكتور عبداللطيف
بن محمد الحميدان
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.