لماذا تقلق إسرائيل من الدولة السورية الجديدة؟

30

بقلم د. ابراهيم العرب

في ظل التطورات المتسارعة جنوب سوريا، وتحديدًا في السويداء، حيث اندلعت اشتباكات بين الدروز وعشائر البدو، سارعت القوات السورية إلى التدخل لاحتواء النزاع. إلا أن إسرائيل استغلت هذا الوضع الداخلي المتأزم لتنفيذ هجوم مباشر وغير مسبوق على دمشق، استهدف محيط هيئة الأركان العامة، ووزارة الدفاع، وحتى القصر الرئاسي. لم يكن هذا العدوان مجرد عمل عسكري، بل يحمل في طياته رسالة سياسية واضحة: الخشية من تعافي السيادة السورية.

الذريعة الإسرائيلية التقليدية بـ«الضربة الوقائية» لم تعد تقنع أحداً. فالهجوم جاء متزامنًا مع مؤشرات متزايدة على انخراط سوريا مجددًا في الحياة الدولية، بدءًا من إعادة إطلاق العملية الدستورية برعاية الأمم المتحدة، ومرورًا بتخفيف العقوبات الغربية، ووصولًا إلى عودة الدعم العربي والإقليمي لدمشق، من تركيا إلى السعودية ودول الخليج. كل هذه التحركات تمثل بداية استعادة الدولة السورية لعافيتها وموقعها، ما اعتبرته إسرائيل تهديدًا مباشرًا لتوازن إقليمي لطالما سعت لفرضه.

ما يزيد من دلالة هذا التوقيت، هو الخطاب الإعلامي الذي سبق الهجوم، والذي روّج عبر شخصيات مأجورة لمزاعم بأن الرئيس السوري أحمد الشرع يتجه إلى التطبيع الكامل مع إسرائيل. لكن هذه الحملات الإعلامية لم تكن سوى أداة من أدوات التمهيد للعدوان، تهدف إلى ضرب مصداقية القيادة السورية الجديدة، وتشويه صورة دمشق التي تعيد ترميم سيادتها وقدرتها على الردع.

في هذا السياق، لا يمكن تجاهل التحولات في الجنوب السوري، حيث أدى انسحاب الجيش السوري من بعض المناطق إلى تشكّل ما يشبه الحكم الذاتي في السويداء. وقد لعبت بعض القوى المحلية، المدفوعة بعوامل داخلية وخارجية، دورًا في تصعيد الفوضى. إسرائيل من جهتها، وجدت في هذا الوضع فرصة لتوجيه ضربة مزدوجة: اختبار قدرة دمشق على بسط سلطتها، والتلويح بنموذج حكم ذاتي درزي قد يعيد سيناريوهات التقسيم إلى الواجهة، ويدفع بمكونات أخرى في سوريا إلى المطالبة بمسارات مماثلة، من «قسد» في الشمال الشرقي إلى غيرها.

إلا أن الرهان الإسرائيلي على تفكيك الدولة السورية لا يقتصر على مصلحة جيوسياسية موضعية، بل يندرج ضمن مشروع أشمل يهدف إلى إعادة رسم خرائط المنطقة، ليس عبر الدبابات بل عبر الفوضى، الإعلام، والضغوط الاقتصادية. فكل تفكك في الهياكل السيادية للدول، وكل انقسام داخلي، هو مكسب استراتيجي لإسرائيل التي لا تخفي أنها تعتبر وحدة سوريا تهديدًا طويل الأمد لها.

والأخطر أن هذا العدوان ليس موجّهًا إلى سوريا وحدها، بل يتضمن رسالة واضحة للولايات المتحدة أيضًا، في محاولة لتكريس دور إسرائيل كطرف لا يمكن تجاوزه في أي معادلة إقليمية. وهو ما يفسّر مسارعة دوائر إسرائيلية إلى عرقلة أي مسعى للانسحاب الأميركي من سوريا، كما وعد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي لم يكن يخفي نيته إنهاء التدخل الأميركي هناك، وهو الموقف الوحيد الذي لقي استحسانًا من أنصاره ومن دعاة الواقعية السياسية في الداخل الأميركي. لكن هذه التوجهات قوبلت بردّ عدواني، هدفه نسف أي توازن جديد قد ينشأ بعيدًا عن وصاية تل أبيب.

وفي هذا الإطار، لا يكفي التنديد العربي الرسمي الذي صدر عن تركيا والسعودية ودول أخرى، والذي أدان الهجوم ووصفه بأنه اعتداء سافر يهدد استقرار الإقليم. المطلوب اليوم موقف عربي جامع، يرتكز إلى رؤية أمنية جماعية تدرك أن استقرار سوريا ووحدتها هو صمّام الأمان للعالم العربي بأسره.

لقد كان رد الرئيس السوري أحمد الشرع واضحًا: «بإمكانكم بدء الحرب، لكنكم لن تستطيعوا إنهاءها». هذا الرد لم يكن تهديدًا بل تحذيرًا استراتيجيًا يعيد التأكيد على مكانة سوريا في قلب المشروع العربي. تمامًا كما قال الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في خطاب الوحدة عام 1958 من دمشق: «كنت دائمًا أشعر بأنها قلب العروبة النابض».

اليوم، المسؤولية التاريخية تقع على عاتق كل من يؤمن بعروبة سوريا وبأهميتها الجيوسياسية. فالعدو الإسرائيلي لم يستهدف سوريا كدولة فقط، بل استهدف صلتها بعروبتها، وعلاقاتها بدول الجوار، وطموحاتها الاقتصادية والحضارية. وبالتالي، فإن مقاومة مشروع التفتيت الإسرائيلي تتطلب وعيًا وطنيًا يتجاوز الطوائف والمذاهب، ويترفع عن الاصطفافات الضيقة.

كذلك، فعلى المجتمع الدولي، وبخاصة واشنطن، أن يتحمل مسؤوليته في وقف هذا التمادي الإسرائيلي. حيث لا يمكن القبول بأن تتحول السماء السورية واللبنانية إلى ساحة مفتوحة لانتهاكات يومية من دون رادع، ولا بدّ من ضمانات فعلية تلجم هذه الاعتداءات المتكررة، وتضع حدًا لمحاولات فرض منطق القوة على حساب السيادة والشرعية.

وفي النهاية، قد تكون إسرائيل قادرة على إشعال الحروب، لكنها لن تستطيع حسمها. فشعب سوريا، بقواه الوطنية الحية، قادر على تجاوز الجراح، واستعادة دولته، وإجهاض كل المشاريع التي تهدف إلى تقسيمه. وسوريا ستبقى واحدة موحّدة، وستبقى كما كانت دومًا، قلب العروبة النابض.

د. ابراهيم العرب

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.