مأزق نتنياهو: بين مطرقة اليمين المتطرف وسندان الضغوط الأميركية

3

المحامي  أسامة العرب

لم تعد إسرائيل ذلك الكيان الذي يمكن أن يخدع الغرب بأنه دولة ديمقراطية في قلب الشرق الأوسط، بل كشف عن وجهه الحقيقي القبيح بوضوح بأنه دولة الاحتلال اليميني المتطرف بزعامة بنيامين نتنياهو، الذي يضع بقاءه السياسي فوق أي اعتبار أخلاقي أو إنساني. فالرجل لم يعد يُخفي أولوياته الحقيقية، إذ لم يعد يهتم فعلياً باستعادة الأسرى الإسرائيليين من غزة، بقدر ما يسعى إلى تحقيق مشروعه الاستراتيجي الأكبر، والذي هو السيطرة الكاملة على قطاع غزة، ولو كان الثمن سقوط مئات الآلاف من الشهداء الفلسطينيين من المدنيين.

إنّ ما يقوم به نتنياهو وحكومته اليمينية المتشددة يرقى إلى عملية تطهير عرقي ممنهجة، تهدف إلى تهجير الفلسطينيين من مدنهم وقراهم إلى دول أخرى، مع السعي لطمس كل معالم الحياة في القطاع، وتدمير بنيته التحتية بما يحوّله إلى منطقة غير صالحة للسكن.

ورغم أنّ إسرائيل تُروّج عبر إعلامها العبري المزيّف لأهداف مُعلنة، مثل القضاء على حركة حماس واستعادة الأسرى، إلا أن هذه الشعارات ليست سوى ستار يُخفي الأجندة العقائدية لليمين المتطرف. فالمشروع الحقيقي يتمثل في فرض أمر واقع جديد على الغزيين، يضمن بقاء الاحتلال وتوسيع الاستيطان، وإنهاء أي أمل بحل الدولتين.

إنّ وصف الحرب بأنها “وجودية ومصيرية” يعكس أن حكومة نتنياهو لا ترى في عشرات الأسرى الإسرائيليين سوى تفصيل صغير يمكن التضحية به من أجل “المستقبل اليهودي” كما يدّعون. وبذلك، يتحول دم الجنود القتلى، والجرحى، والأسرى أنفسهم إلى مجرد أوراق تفاوضية، تُستثمر في خدمة الهدف الأكبر: ترسيخ المشروع الصهيوني المتطرف على حساب الشعب الفلسطيني.

كما تمكّنت بالسابق الحكومة الإسرائيلية، عبر أدواتها الدعائية والسياسية، من تهميش قضية الأسرى اليهود، عبر شق صفوف أهاليهم، وكسب بعضهم لصالح خيار الحرب، فيما حشدت عائلات الجنود القتلى في مواجهة عائلات الأسرى الرافضة لاستمرار النزاع. بل إن نتنياهو لجأ مراراً إلى خطاب يُحمّل أي احتجاج داخلي مسؤولية إضعاف إسرائيل أمام “حماس والشهيد البطل يحيى السنوار رحمه الله”، مانعاً بذلك أي فرصة لطرح خيار الانتخابات المبكرة أو إسقاط حكومته.

وحين أعلن نتنياهو صراحة أن “استعادة الأسرى هدف مهم، لكنه ليس الهدف الأسمى، بل إن النصر العسكري هو الغاية الكبرى”، اشتعل غضب عائلات الأسرى التي رأت في ذلك استخفافاً بآلامها. لكن هذا الغضب اصطدم مجدداً بجدار الدعاية الحكومية الصلبة، وبنفوذ شركائه المتطرفين من أمثال بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، الذين يضغطون باتجاه استمرار الحرب، حتى لو كان الثمن المزيد من الدماء الإسرائيلية قبل الفلسطينية.

إلا أنّ هذه المرة مختلفة عن سابقاتها، فنتنياهو يقف اليوم أمام خيارين أحلاهما مرّ:

– إما القبول بصفقة ويتكوف المعدلة التي يضغط الرئيس الأميركي دونالد ترامب من أجل تمريرها، وهو ما قد يؤدي إلى تفكك حكومته اليمينية.

– وإما رفضها، وبالتالي مواصلة الحرب من دون غطاء أميركي، وهو ما يعرّض إسرائيل لخطر العزلة الدولية، لا سيما بعد أن بدأ صبر واشنطن ينفذ من حرب طويلة بلا أفق سياسي، وبعدما لم تعد أوروبا قادرة على التزام الصمت، إذ بدأت العواصم الأوروبية تغلي تحت ضغط الرأي العام الرافض لاستمرار المجازر في غزة، بينما تزداد التظاهرات داخل إسرائيل بوتيرة غير مسبوقة، حيث لم تعد العائلات الإسرائيلية تقبل المزيد من الأعذار، خصوصاً بعد موافقة حماس الأخيرة على “مخطط ويتكوف بلس” الذي تضمّن مرونة في القضايا الخلافية، أبرزها تخفيض عدد الأسرى الفلسطينيين المطلوب الإفراج عنهم، وكذلك تقليص حجم المنطقة العازلة الأمنية.

من المؤكد أن نتنياهو سيرضخ في نهاية المطاف للضغوط الدولية، لكن هذا الخيار الذي سيتخذه سيكون على حسابه الشخصي، لأنه إذا استجاب لواشنطن، فسوف يخسر دعم حلفائه المتطرفين الذين يهددون بإسقاط حكومته، وسيفتح على نفسه أبواب المحاسبة الدولية، حيث تتزايد المطالب بمحاكمته بتهمة ارتكاب جرائم حرب والتطهير العرقي. وهكذا باتت إسرائيل مكشوفة أكثر من أي وقت مضى، ليس فقط أمام العالم، بل أمام جزء كبير من مجتمعها الداخلي، الذي بدأ يُدرك أن قادته لا يكترثون بمصير أبنائه بقدر اكتراثهم بمصير مشروعهم السياسي. وهنا تصدق الآية الكريمة: “وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون”.

كذلك، فلا يمكن فصل الحرب الدائرة في غزة عن المشهد السياسي الداخلي في إسرائيل. فالمجتمع الإسرائيلي يعيش واحدة من أعمق أزماته منذ قيام دولة الاحتلال عام 1948، إذ تتزايد الانقسامات الداخلية بين معسكرات متباينة: أولاً المعسكر اليميني المتطرف الذي يصرّ على استمرار الحرب حتى تحقيق ما يسميه “النصر الكامل”، وثانياً المعارضة السياسية التي ترى أن نتنياهو يستغل الحرب للبقاء في السلطة، وأن الحل العسكري لن يجلب سوى المزيد من القتلى والانهيار الداخلي، وثالثاً عائلات الأسرى والضحايا التي تحولت إلى بؤرة احتجاج وضغط على الحكومة، بعدما شعرت أن مصير أبنائها يُباع في بازار السياسة.

هذا الانقسام العميق انعكس في الشارع الإسرائيلي، حيث لم تعد التظاهرات اليوم تقتصر على المطالبة بإنهاء الحرب، بل تمتد إلى الدعوة العلنية لإسقاط نتنياهو ومحاكمته بتهم الفساد والإخفاق في إدارة الدولة. ومع مرور الوقت، ستتزايد القناعة الشعبية بأن رئيس الوزراء بات عبئاً على إسرائيل نفسها، وليس مجرد خصم للمعارضة؛ أما على صعيد المؤسسة العسكرية والأمنية، فإن الأصوات الناقدة بدأت ترتفع هي الأخرى، خاصة مع الخسائر الكبيرة التي مُني بها الجيش الإسرائيلي في غزة، والتي فاقت التوقعات؛ فهناك تقارير داخلية تشير إلى أنّ الثقة بين القيادة السياسية والعسكرية بدأت تهتز، وهو ما قد يشكّل خطراً إضافياً على تماسك الدولة العبرية في حال طالت الحرب أكثر. كما يُجمع محللون دوليون غربيون على أن مستقبل نتنياهو السياسي بات مهدداً أكثر من أي وقت مضى. فمحاولة المناورة والتأجيل، التي انتهجهها نتنياهو مؤخراً، عبر مفاوضات شكلية وحملات دعائية، ستولّى إلى غير رجعة في ظل الضغط المتزايد من الخارج والداخل معاً.

وفي الختام، فإن الحرب في غزة لم تعد مجرد مواجهة عسكرية بين إسرائيل وحماس، بل أصبحت اختباراً تاريخياً لمستقبل إسرائيل ككل، ولشخص بنيامين نتنياهو على وجه الخصوص، فالرجل الذي بنى مجده السياسي على خطاب الخوف والأمن، يقف اليوم مكشوفاً أمام شعبه والعالم: لا هو قادر على تحقيق النصر العسكري، ولا هو مستعد للتنازل من أجل الأسرى أو السلام. وبينما يقترب من نهايته السياسية، فإن إرثه قد يُختزل في عبارة واحدة: أنّه رئيس الوزراء الذي قاد إسرائيل إلى عزلة دولية، وأشعل حرباً لم يستطع أن ينهيها، وأهدر دماء الإسرائيليين والفلسطينيين معاً في سبيل بقائه على الكرسي.

المحامي  أسامة العرب

 

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.