مؤسسة غزة اللاإنسانية: سلاح لتسريع تهجير وإبادة الفلسطينيين
المحامي أسامة العرب
تُعدّ ما تُسمى بـ«مؤسسة غزة الإنسانية» أداة مستحدثة ضمن منظومة الاحتلال الإسرائيلي لاستخدام الوسائل الإنسانية كسلاح لتحقيق أهداف سياسية وعسكرية، في انتهاك فاضح لأحكام القانون الدولي الإنساني، ولا سيّما اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 والبروتوكول الإضافي الأول لعام 1977.
فمنذ تأسيس هذه المؤسسة في شباط/فبراير 2025، بُعيد فرض إسرائيل حظرًا تامًا على دخول المساعدات، بات واضحًا أن الهدف من إنشائها لم يكن إنسانيًا بقدر ما كان سياسيًا وعسكريًا، يرمي إلى إخضاع سكان قطاع غزة لمعادلة التجويع مقابل التهجير. وقد تجلى ذلك من خلال تموضع نقاط توزيع المساعدات بعيدًا عن المناطق السكنية المكتظة، وتركزها في مناطق تمركز القوات الإسرائيلية، مما يعرّض المدنيين لخطر مباشر أثناء محاولتهم الوصول إليها، سواء من خلال إطلاق النار أو القصف بالطائرات المسيّرة، وهو ما يتنافى مع مبدأ التمييز وحماية السكان المدنيين.
وتوثّق التقارير الحقوقية والبيانات الأممية استشهاد مئات الفلسطينيين، من بينهم نساء وأطفال، خلال محاولاتهم الحصول على المساعدات. كما أن استهداف طوابير المنتظرين، والذي أفضى إلى وقوع مجازر تُعرف إعلاميًا بـ”مجازر الطحين”، يُعدّ بموجب القانون الدولي جريمة حرب مكتملة الأركان.
وتعزّز التقارير الميدانية هذه الصورة المأساوية، إذ تشير إلى أن إسرائيل، ضمن آلية توزيع المساعدات عبر هذه المؤسسة، تمارس سياسة “التجويع كأداة حرب”، وهو ما يُخالف المادة 54 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، التي تحظر تجويع السكان المدنيين كأسلوب من أساليب القتال. بل إن إسرائيل ذهبت إلى أبعد من ذلك، عبر حساب دقيق للسعرات الحرارية اليومية، بما لا يكفي سوى للبقاء البيولوجي، في تعبير فج عن عسكرة العمل الإنساني وتسييسه.وقد امتد هذا النمط من الانتهاك ليشمل عرقلة عمل المنظمات الدولية والهيئات الأممية العاملة في قطاع غزة، حيث امتنعت أغلبها عن التعاون مع «مؤسسة غزة الإنسانية» واعتبرتها أداة “لعسكرة المساعدات”. وتؤكد بيانات صادرة عن منظمات مثل العفو الدولية وأوكسفام والمجلس النرويجي للاجئين أن هذه المؤسسة تخرق المبادئ الإنسانية الأساسية، وعلى رأسها الحياد والاستقلال وعدم التمييز.
كما تم توثيق مصرع ما يزيد على 479 من العاملين في مجال الإغاثة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، في خرق واضح للمادة 71 من البروتوكول الإضافي الأول، التي تنص على ضرورة احترام وحماية أفراد الإغاثة الإنسانية.
والأخطر من ذلك، أن المؤسسة تُستخدم كأداة لإعادة تشكيل الخارطة الديموغرافية لقطاع غزة. فتركز نقاط التوزيع في المناطق الجنوبية دون غيرها، في ظل الحصار المشدّد على مناطق الشمال والوسط، وكل ذلك بهدف دفع السكان للنزوح القسري جنوبًا، في انتهاك صارخ للمادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر النقل القسري الجماعي أو الفردي للسكان المدنيين من الأراضي المحتلة.
وتتقاطع هذه السياسات مع تصريحات علنية لمسؤولين إسرائيليين، بمن فيهم رئيس الوزراء ووزير الأمن القومي، والتي تربط بين وقف المجاعة والإفراج عن الأسرى الإسرائيليين، والتي تدعو إلى تهجير سكان غزة، مما يشكّل إقرارًا سياسيًا باستخدام الغذاء كوسيلة للضغط والابتزاز السياسي، بل والإبادة الجماعية.
وفي ظل هذا الواقع، فإن استمرار الولايات المتحدة في دعم هذه المؤسسة، رغم إدراكها لطبيعة الانتهاكات المترتبة على نشاطها، يجعلها في موقع المساءلة الدولية، باعتبار أن دعمها يُعدّ مساهمة مباشرة أو غير مباشرة في تسهيل ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وفقًا لمبدأ مسؤولية الدول عن الأعمال الدولية غير المشروعة.
ختاماً، إن ما يجري في قطاع غزة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 هو أكثر من مجرد حصار؛ إنه نمط ممنهج من الإبادة الجماعية الصامتة، تُستخدم فيه المساعدات كسلاح، ويُوظف فيه العمل الإنساني كغطاء لتفريغ الأرض من سكانها الأصليين. كما أن الصمت الدولي، وخصوصًا من قبل الدول الأطراف في اتفاقيات جنيف، يرقى إلى درجة التواطؤ. وعلى المجتمع الدولي، وعلى رأسه مجلس الأمن والمحكمة الجنائية الدولية، التحرك العاجل لوقف هذا الانتهاك الجسيم، وإعادة الاعتبار للشرعية الدولية، التي لم يعد من المقبول أن تبقى رهينة للازدواجية والمصالح السياسية. فغزة اليوم لا تحتاج إلى خطابات تعاطف، بل إلى تحرك قانوني وميداني يُنهي جريمة العصر بحق شعب بأكمله.
المحامي أسامة العرب
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.