“مستقبل الاستثمار” السّعوديّ: من المشاريع الكبرى إلى ثورة “الـ AI”

6

بقلم عبادة اللدن
«اساس ميديا»
قد تكون ثورة الذكاء الاصطناعي أولى الثورات الإنسانيّة الكبرى التي يدخلها العرب منذ بدايتها. ففي الثورة الصناعيّة، كان العرب خارج التاريخ، وفي ثورة المعلومات في تسعينيّات القرن الماضي، كانوا يخطون الخطوات المبكرة على طريق التحديث. أمّا في ثورة الذكاء الاصطناعي، فيبدو التصميم واضحاً من السعوديّة على أن تكون في الخطّ الأماميّ للاستثمارات وصناعة التوجّهات في هذا القطاع.
كانت سنة 2025 مفصليّة في تحوُّل اقتصاد السعوديّة وتوجّهاتها الاستثماريّة نحو ثورة الذكاء الاصطناعي ومراكز البيانات والتصنيع المتقدِّم القائم على الروبوتات. وستكتمل صورة هذا التحوّل باستراتيجية جديدة للسنوات المقبلة حتّى عام 2030، يعتزم صندوق الاستثمارات العامّة السعوديّة الكشف عنها قريباً، لكنّ الملامح العامّة بدأت تظهر بخطوات متسارعة في الأشهر الماضية. وكان منتدى “مبادرة مستقبل الاستثمار” (FII) الذي انعقد في الرياض في الأسبوع الأخير من تشرين الأوّل، مناسبة لتجميع أجزاء تلك الصورة، وتقديمها للمجتمع الاستثماريّ العالميّ.
تكيّف استراتيجيّ
بات حضور الرؤساء التنفيذيّين لأكبر بنوك وول ستريت وعمالقة شركات التكنولوجيا تقليداً ثابتاً لـ FII منذ انطلاقه بنسخته الأولى قبل تسع سنوات. وقد رسّخ المنتدى حضوره منافساً مباشراً لمنتدى “دافوس” الشهير على الساحة الدوليّة، من حيث مستوى الحضور واتّساع المشاركة الدوليّة. غير أنّ هويّة الحاضرين تعكس في الغالب اتّجاه رياح الاستثمارات العالميّة من جهة، وبوصلة التوجّهات الاقتصاديّة والاستثماريّة السعوديّة من جهة أخرى.
على المستوى الدوليّ، حضر رؤساء أكبر البنوك العالميّة، من أمثال الرئيس التنفيذيّ لمصرف “جي بي مورغان” جيمي ديمون، ورئيس “غولدمان ساكس” ديفيد سولومون، ورئيس “مورغان ستانلي” جيمس غورمان، وإلى جانبهم قادة من أكبر شركات التكنولوجيا مثل “مايكروسوفت” و”غوغل” و”إنفيديا” و”أوبن إي آي”.
اختلفت المشاركات في الجانب السعوديّ نوعيّاً. ففي السنوات الماضية، كانت مشاريع “نيوم” و”ذا لاين” و”البحر الأحمر” و”تروجينا” نجوم المنتدى. أمّا نسخة هذا العام فحملت صبغة مختلفة، تصدّرتها رقاقات السيليكون ومراكز البيانات الضخمة والروبوتات والنماذج اللغويّة.
ليس هذا التحوّل تبدّلاً في الاختيارات بقدر ما هو تكيّف استراتيجيّ مع الزمن العالميّ الجديد. فالمشاريع العملاقة سلكت طريقها وباتت معطى على أرض الواقع، وإن يكن بعضها قيد المراجعة من حيث وتيرة الإنفاق والتنفيذ. ولذلك تتركّز العناية الآن على السباق بين الولايات المتّحدة والصين وأوروبا لامتلاك البنية الحاسوبيّة والذكاء الاصطناعيّ.
الصورة، كما يرسمها الرئيس التنفيذيّ لشركة “إنفيديا” جنسن هوانغ، تتلخّص بأنّ هذا السباق المحتدم يتوزّع على خمس ركائز:
1- الطاقة، باعتبار أنّ مراكز البيانات تحتاج إلى الكهرباء بطاقة هائلة.
2- صناعة الرقائق الأكثر تقدّماً، وهنا سرّ الأسرار.
3- نماذج الذكاء الاصطناعيّ، مثل “تشات جي بي تي” و”جيميناي” و”ديب سيك” وغيرها.
4- مراكز البيانات والبنية التحتيّة.
5- التطبيقات القائمة على الذكاء الاصطناعيّ.
إذا كانت الولايات المتّحدة تقود السباق في صناعة الرقائق، فإنّ الدخول في قلب هذه الثورة له مفاتيح متعدّدة. وقد أدركت السعوديّة مدى أهميّة المفاتيح التي تمتلكها. فالدول الأوروبيّة (وسواها) تواجه صعوبة في إنتاج الطاقات المتجدّدة والمنخفضة الكربون لتشغيل مراكز البيانات. ولذلك لا يبقى أمامها إلّا أن تختار بين استيراد الطاقة النظيفة أو إنشاء مراكز البيانات بقرب مصادر الطاقة النظيفة.
النّقطة الفاصلة
أدرك وليّ العهد السعودي أنّ الموارد الماليّة والقوّة التنافسيّة للسعودية في قطاع الطاقة وموقعها الجغرافيّ عوامل تمنحها فرصة نادرة لتكون لاعباً مركزيّاً في هذا السباق. ولذلك كان المفتاح بالنسبة للسعوديّة، والإمارات أيضاً، تخصيص استثمارات هائلة للطاقة المتجدّدة والطاقات المنخفضة الكربون من جهة، وتخصيص استثمارات أضخم لإنشاء مراكز البيانات من جهة أخرى، بما يتيح لها اجتذاب استضافة الخدمات الحوسبيّة للدول الأخرى.
كانت النقطة الفاصلة في هذه الاستراتيجية إطلاق شركة HUMAIN خلال زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للرياض في أيّار الماضي، لتكون ذراعاً وطنيّة للذكاء الاصطناعي تتبع لصندوق الاستثمارات العامّة. لكنّها ظهرت في FII9 بحجم يتجاوز فكرة شركة ناشئة، مقدِّمةً نفسها كياناً رقميّاً سياديّاً يعيد رسم حدود التقنيّة في المنطقة.
أعلنت الشركة خلال المنتدى اتّفاقات ضخمة، من ضمنها شراكة استراتيجيّة مع “غوغل كلاود” لإنشاء مراكز بيانات ضخمة في الرياض، واتّفاقاً مع “إنفيديا” لتوريد أكثر من 18 ألف شريحة من الجيل الأحدث من الرقائق المعروفة باسم Blackwell. وكشفت عن تعاون مع “مايكروسوفت” و”أمازون” لتطوير بنية سحابيّة وطنيّة.
إلى جانب “هيومين”، يبرز اسم شركة “آلات” (ALAT) التي أطلقها صندوق الاستثمارات العام الماضي لتكون ذراعاً للتصنيع المتقدّم في مجالات الإلكترونيّات والروبوتات والرقاقات، باستثمارات تتجاوز 100 مليار دولار حتّى عام 2030.
ستتظهّر هذه التحوّلات بشكل أوضح مع إطلاق الاستراتيجية الجديدة لصندوق الاستثمارات السعودي في الأشهر المقبلة، التي يُنتظر أن تتضمّن مضاعفة الاستثمارات التقنيّة لتتجاوز 200 مليار ريال سعوديّ، لجعل السعوديّة مركزاً إقليميّاً للذكاء الاصطناعيّ والتقنيّات المتقدّمة بحلول نهاية العقد.
عبادة اللدن

 

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.