مصر.. “الصّمت لغة الكبار”

6

بقلم ابراهيم ريحان

«أساس ميديا»

كيف نجحَت سياسة “الصّمت المصريّ” في وقف الحربِ في غزّة؟ وكيف قلبت القاهرة الدّفّة لمصلحة الفلسطينيّين؟ وما علاقة لبنان بمفاوضات شرم الشّيخ؟ وهل يستفيدُ لبنان من الزّخم السّياسيّ المصريّ لمنعِ الحرب عن حدوده وعمقه؟

عمِلَت مصر بكلّ دوائرِها المعنيّة على مدى الأشهر الـ3 الماضية لإنجاحِ الورقةِ التي قدّمها الرّئيس الأميركيّ دونالد ترامب لوقفِ الحربِ في غزّة. لكنّ العمَلَ المصريّ كانَ كما يُقال باللهجةِ المصريّة “على السُكِّيت”. استعانَت القاهرةُ على “قضاء حوائجِها بالكتمان”. فكانَ لها الدّورُ الأكبر في صياغةِ سطُور الاتّفاق الذي لحَظَ بشكلٍ واضحٍ وقفَ الحربِ ومنع تهجير الغزّيّين أو احتلال القطاع.

القاهرة ممرّ إلزاميّ

يفرضُ التّاريخ ومعه الجغرافيا أن تكونَ مصرَ ممرّاً إلزاميّاً لا مفرّ منه لنجاحِ أيّ مُبادرة في غزّة. إذ لا يُمكنُ تجاوز جمهوريّة مصر، الدّولة العربيّة الوحيدة التي تتشارَك مع غزّة بحدود برّيّة وبحريّة، وصِلات اجتماعيّة وعائليّة. يُعتبرُ القطاع جزءاً أساسيّاً من الأمن القوميّ لمصر. والأكيدُ أنّ أحداً لن يجِدَ من يعرفَ تركيبة القطاع السّياسيّة والأمنيّة والعسكريّة والعشائريّة كما يعرفهُ المصريّون.

لم تكُن مهمّة القاهرة سهلةً في معركةِ صياغة الاتّفاق. لكنّها أيضاً أثبتت أنّه لا يُمكنُ تخطّيها أو صياغةِ أفكارٍ ومُقترحات تمسّ أمنها القوميّ. لذلكَ يُمكنُ لمسُ الجهودِ المصريّة في اتّفاقِ وقفِ الحربِ، من دونِ أن يسبقَ ذلكَ ضجيجٌ وأضواء.

يهوى المصريّون اللعبَ على التّفاصيل، ذلكَ أنّ الشّيطان يكمنُ فيها:

-1 انتقلَت المفاوضات الأساسيّة للمُقترح الأخيرِ إلى الأراضي المصريّة، وتحديداً إلى مدينة شرم الشّيخ، التي شهِدتَ إعلان الاتّفاق بين حركة حماس وإسرائيل على تنفيذ المرحلة الأولى من اتّفاقِ وقف الحرب.

-2 عُقِدَت هذه المفاوضات في تاريخ 6 تشرين الأوّل 2025، وهي الذّكرى الـ52 لحربِ أكتوبر التي شنّها الجيشان المصريّ والسّوريّ ضدّ الاحتلال الإسرائيليّ في سيناء والجولان. والتّاريخ أيضاً هو عشيّة الذّكرى الثانية لعمليّة “طوفان الأقصى” التي كانت شرارة الحرب على قطاع غزّة.

-3 اختيارُ مدينة شرم الشّيخ الواقعة في جنوبِ شبهِ جزيرة سيناء التي كانت مسرحَ القِتال في حرب أكتوبر 1973 لا ينفصل أيضاً عن رمزيّتها بالنّسبة للمصريّين.

-4 كانَ قياديّو حركتَيْ حماس والجهاد الإسلاميّ يتجوّلون بأريحيّة أمام الفنادِق التي يقيمون فيها في “شرم”. هذا أيضاً لا ينفصلُ عن طيّاتِ رسائلَ أرادت القاهرة أن تصِلَ إلى من يعنيهم الأمر بعد أسابيع من محاولة اغتيال قادة “حماس” في العاصمة القطريّة الدّوحة.

ماذا في السّياسة؟

لم تُهمل القاهرة التّفاصيل الشّكليّة، لكنّها أيضاً لم تُهملُ الأهمّ، وهي التّفاصيل السّياسيّة للاتّفاق. وذلكَ حينَ أقرّ الجميع بدورها المركزيّ في صياغة ونجاح الاتّفاق.

-1 استطاعَت مصر أن تفرضَ في الاتّفاقِ نصّ الانسحاب الإسرائيليّ خلال 24 ساعة من موافقةِ حكومة بنيامين نتنياهو على الاتّفاق، وتحديداً ما باتَ يُعرف بـ”الخطّ الأصفر” الذي ظهرَ في الخريطة التي نشرها الرّئيس الأميركيّ دونالد ترامب. لم تختَر القاهرة خطوط الانسحاب عن عبث. فهي أرادت ضربَ أيّ حجّة لبقاء الاحتلال في مدن وأحياء غزّة، وحتّى خارجها، لئلّا يتكرّر سيناريو النّقاط الـ7 في جنوب لبنان.

-2 لا يُمكن فصل دعوة وفد حركة “الجهاد الإسلاميّ” إلى حضور مفاوضات شرم الشّيخ عن رأي وجهود مصر. إذ إنّ الحركةَ المُقرّبة من الحرس الثّوريّ الإيرانيّ لم تكن راضيةً في البداية عن الاتّفاق، فكان حضورها للمفاوضات ضرورة لقطعِ أيّ طريقٍ أمام أيّ طرفٍ إقليميّ للتشويش أو لمحاولة إفشال الاتّفاق.

تكمنُ خشيةٌ في طهران من أن تكونَ هي أو “الحزبُ” في لبنان الهدفَ التّالي لنتنياهو بعد وقفِ الحربِ في غزّة. وهذا ما أشارَ إليه مستشار المرشد الإيرانيّ علي ولايتي بقوله: “بدءُ الهدنة في غزّة قد يعني انتهاءها على جبهةٍ أخرى”. ومن هذا المُنطلق كانَ من الضّروريّ حضور “حركة الجهاد”.

-3 تحتَ ظلال الصّمت أيضاً، كانت القاهرة تُشرفُ على تدريب 5,000 عنصرٍ من قوّات الأمن الفلسطينيّ ليكونوا جاهزين لدخول قطاع غزّة وتولّي الأمن فيه. ذلكَ أنّ القاهرة تُريدُ أن تنزعَ أيّ ذريعة إسرائيليّة للسّيطرة الأمنيّة على القطاع، أو إطالةِ أمد إدارة أمن القطاع من دون الفلسطينيّين في مرحلةِ ما بعدَ الحرب. تُقدّم مصر مصالح أمنها القوميّ على أيّ اعتبارٍ لمصلحةِ القوى الدّوليّة بما فيها الولايات المُتّحدة. لذلكَ كانَ جليّاً أنّ الرّئيس المصريّ عبدالفتّاح السّيسيّ قالَ أكثر من مرّةٍ بصمتٍ “لا” للقاء الرّئيس الأميركيّ دونالد ترامب حينَ كانَ الأخير يتمسّك بخطّتهِ الأولى لتهجير سُكّان القطاع وتحويلهِ إلى “ريفييرا الشّرق الأوسط”.

لبنان حضرَ.. هل ينجو؟

يعلمُ السّيسي قطاعَ غزّة جيّداً. ويعلمُ حساسيّة الملفّ الفلسطينيّ. إذ لعبَت مصر طوال السّنوات الماضية الدّور الأساسيّ في وقفِ الجولات القتاليّة بين “حماس” وإسرائيل في فترة ما قبل “طوفان الأقصى”. وقد نجحَت في كلّ محاولاتها عبر صياغة الاتّفاقات الأمنيّة بشأن القطاع، وحتّى الضّفّة الغربيّة، بين تل أبيب والفصائل الفلسطينيّة.

في شرمِ الشّيخ، لم يكن البحثُ محصوراً بغزّة، إذ إنّ سلاح حركة حماس ومصير قياديّيها له امتداداته، وخصوصاً في لبنان، حيثُ تمتلكُ الحركة فرعاً لجناحها العسكريّ “كتائب القسّام”، ويعيشُ العديد من قياديّيها. وبالتّالي حضرَ مصير سلاحها وقادتها في لبنان، وهذا يعني أيضاً أنّ الملفّ اللبنانيّ، وتحديداً الجزئيّة المُتعلّقة بسلاح “الحزبِ”، كانَ حاضراً على طاولة البحث.

هي لحظةٌ بالغةُ الدّقّة والحساسيّة بالنّسبة إلى لبنان. إذ إنّ رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو قد يضطرّ إلى “استرضاء” شريكَيْه في الائتلاف الحكوميّ إيتامار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش المُعارضَيْن لوقف الحرب على غزّة، بخاصّة أنّ إسرائيل دخلت العام الأخير من عمر الكنيست الحاليّ، وباتت على بُعد 12 شهراً من الانتخابات التشريعيّة.

على الرّغم من دقّة المرحلة يبقى الزّخم المصريّ الذي ساهمَ في وقف الحرب في غزّة حاضراً، وهذا يفتحُ الباب للمسؤولين اللبنانيّين للاستفادة من مسار شرم الشيخ قبل فوات الأوان، وليسَ تاريخ 27 تشرين الثّاني، الذّكرى الأولى لاتّفاق وقف الأعمال العدائيّة بين “الحزبِ” وإسرائيل ببعيدٍ. فالتاريخ يؤكّد أنّ مصرَ تعرف قراءة 3 ملفّات ترتبطُ ارتباطاً وثيقاً بأمنها القوميّ: فلسطين، سوريا، ولبنان.

ابراهيم ريحان

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.