ملف النفايات… نسمع جعجعةً ولا نرى طحينًا
بقلم دافيد عيسى
هل يُعقَل أننا على مشارف العام ٢٠٢٦، وفي عصر الذكاء الاصطناعي والنزول على سطح القمر، وما زلنا في لبنان عاجزين عن حلّ مشكلة النفايات؟
وهل يجوز، ونحن على أبواب العام ٢٠٢٦، أن يضمّ مطمر الجديدة ثلاثة جبال من النفايات بات ارتفاعها يقارب الثلاثين مترًا؟
أيّ منطقٍ يقبل أن تبقى شوارعنا مغطّاةً بجبال القمامة، وأن يتحوّل وطننا البائس إلى مكبٍّ ضخمٍ للنفايات؟
يجب أن نقول بكل صدقٍ وجرأة إنّ أزمة النفايات ليست مجرّد مشكلةٍ تقنية أو بيئية، بل هي مشكلة أخلاقية قائمة على التنفيعات والمحاصصات والصفقات، وعلى حساب صحة المواطن وكرامته.
منذ أزمة مطمر الناعمة عام ٢٠١٥، نسمع جعجعةً ولا نرى طحينًا. والدولة تدور في حلقةٍ مفرغة، فكل “خطة طوارئ” تتحوّل إلى بابٍ جديد للمزايدات، وكل “حلٍّ مؤقت” يصبح أزمةً دائمة.
واليوم، ونحن على أبواب الانتخابات النيابية، يغرق اللبناني مجدّدًا بين رائحة القمامة وروائح المزايدات والخطابات السياسية، حيث تملأ النفايات الشوارع وتتزايد المكبّات العشوائية على أطراف المدن، حاملةً معها الذباب والبرغش والحشرات، إضافةً إلى الأمراض والأوبئة.
أما القيمون على ملف النفايات، من بلدياتٍ وسواها، فيتعاملون مع هذا الملف كما يتعاملون مع كلّ شيء حلولٌ ترقيعية لتمرير الانتخابات النيابية.
وفي هذا المجال، لا يقلّ تقصير وزارة البيئة عن ذلك، إذ يُفترض بها أن تكون الذراع التنفيذية والسياسية لإدارة الملف، لا مجرّد وزارة وصاية كما تقول وزيرة البيئة تمارا الزين.
إنّ وزارة البيئة مسؤولة عن تنظيم هذا القطاع عبر وضع مواصفاتٍ عالمية لإنشاء معامل تدوير نفايات حديثة تتوافق مع المعايير الدولية، مع الاستفادة من رغبة وقدرة القطاع الخاص على تنفيذ هذه المشاريع من دون تحميل الدولة أية أعباء تشغيلية.
هذا الملف الهام نوقش مؤخرًا بين الهيئات الاقتصادية برئاسة الوزير السابق محمد شقير، ورئيس الحكومة نواف سلام، خلال زيارتهم الأخيرة له، ضمن المخطّط العام لقانون إشراك القطاع العام مع القطاع الخاص، وهو موجود حاليًا في مجلس النواب في انتظار إقراره.
وتجدر الإشارة إلى أنّ اهتمام الهيئات الاقتصادية بهذا الملف لا يأتي من بابٍ بيئي فحسب، بل من منطلقٍ اقتصادي مباشر، إذ إنّ مناظر النفايات المنتشرة على الطرقات والروائح المنبعثة منها تُبعد الناس عن المؤسسات والمحلات التجارية، وتنعكس سلبًا على الحركة الاقتصادية والاستثمارية في البلاد.
فملف النفايات لم يعد قضية صحية وبيئية فقط، بل بات قضية تؤثر ايضآ في الدورة الاقتصادية والسياحية برمّتها.
وفي هذا المجال اقول للنواب كفى مزايدات لا يكفي أن تنظّروا علينا مع قرب موعد الانتخابات بما يجب عمله، بل الأفضل هو أن تتوجّهوا إلى مجلس النواب وتُقرّوا هذا الملف المهم الذي يشكّل خطرًا صحيًا وبيئيًا على حياة الناس.
وللإنصاف، يجب القول هنا إنّ هذا الملف لا يقتصر حلّه على الجوانب المؤسسية فقط، بل يتطلّب أيضًا بناء ثقافة وطنية تقوم على الفرز من المصدر واحترام البيئة.
وهنا يأتي دور وزارة الوصاية في فرض السياسات وتطبيق القوانين لضمان إدارةٍ مستدامةٍ للنفايات.
والمؤسف أنّه مع اقتراب كل انتخاباتٍ نيابية أو بلدية، يتحوّل هذا الملف إلى ساحة مزايداتٍ واتهاماتٍ متبادلة، وإلى مادةٍ للدعاية الانتخابية والنكد السياسي.
وبعد انتهاء العملية الانتخابية وصدور النتائج، يُرمى الملف في سلّة الإهمال، لتعود الأزمة أشدّ وأعمق.
كيف يمكن لدولةٍ أن تعالج أزماتها المالية والاقتصادية والاجتماعية وهي عاجزة عن حلّ أبسط القضايا الحياتية كملف النفايات؟
كيف يمكن لدولةٍ أن تطلب مساعداتٍ من دولٍ صديقة، بينما لا تستطيع رفع النفايات من شوارعها أو إنشاء مطامر ومعامل حديثة كما تفعل باقي دول العالم؟
كيف نطالب المجتمع الدولي بمساعدتنا ونحن نعيش في دولةٍ ينخرها الفساد “على عينك يا تاجر”؟
كيف ترفع السلطة سيف الإصلاح والقانون فوق رقاب اللبنانيين، وهي عاجزة عن إزالة أكياس القمامة من أمام بيوتهم؟
دولةٌ تعجز عن تنظيف طرقاتها لن تكون قادرة على حلّ ملفاتٍ كبيرةٍ وشائكة، أو رسم مستقبلٍ لوطنٍ يتآكل من الإهمال.
لبنان لا يستحقّ هذا المشهد. كفى استهتارًا بالناس، كفى تجارةً بصحتهم!
لقد تعب اللبنانيون من مطالبة الدولة بحلّ هذه القضايا التي تُعتبر من أبسط حقوق المواطن.
ختامًا، يعلّق اللبنانيون آمالًا كبيرة على دور رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون والحكومة الحالية لإيجاد حلولٍ علميةٍ وعمليةٍ لملف النفايات، ومحاسبة المقصّرين والمنتفعين والسماسرة الذين يزرعون الفساد في البلاد.
دافيد عيسى
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.