من “أميركا أوّلاً” إلى مواجهة دوليّة
بقلم موفق حرب
«أساس ميديا»
في لحظة تتّسم بتصاعد التوتّرات الدولية، واتّساع الفجوة بين واشنطن ومؤسّسات القانون الدولي، تعيد الولايات المتّحدة إحياء خطاب المواجهة الذي يميّز عقيدة “أميركا أوّلاً”. فقرار إدارة الرئيس دونالد ترامب في 20 آب 2025 بفرض عقوبات جديدة على أربعة من قضاة ومسؤولي المحكمة الجنائية الدولية، ليس إجراءً قانونيّاً وحسب، بل رسالة سياسيّة حادّة تؤكّد أنّ واشنطن مستعدّة لمواجهة أيّ مؤسّسة دوليّة تتحدّى سيادتها أو مصالحها، وخصوصاً عندما يتعلّق الأمر بحليفها الأبرز في الشرق الأوسط إسرائيل.
يعكس هذا التصعيد واقعاً مألوفاً في التاريخ الأميركي: فترات من الانكفاء والتمرّد على النظام الدولي سرعان ما تُتبع بإعادة تموضع وانخراط أوسع، حين تفرض التحوُّلات الداخلية والضغوط الدولية مسار تصحيحٍ جديداً.
كان الرأي العامّ الأميركي دائماً المؤشّر الأبرز إلى صعود النزعات القوميّة والانعزاليّة أو تراجعها. شهدت الولايات المتّحدة في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين موجة معاداة للمهاجرين تُرجمت في قانون الهجرة لعام 1924، الذي فرض قيوداً قاسيةً واستهدف القادمين من جنوب وشرق أوروبا وآسيا. لكنّ هذه المرحلة انتهت مع صدور قانون الهجرة والجنسيّة لعام 1965، الذي فتح الباب أمام موجات جديدة من الهجرة أسهمت في تشكيل أميركا الحديثة.
على الرغم من تصاعد الخطاب الشعبويّ المعادي للمهاجرين اليوم، تشير استطلاعات الرأي إلى تحوُّلات تدريجية نحو قبول أكبر للهجرة، وهو ما يوحي بأنّ موجة التشدّد الحاليّة قد تكون، كما في السابق، مؤقّتة ومرتبطة بديناميكيّات سياسية قابلة للتغيير.
التّأرجح بين الانعزال وقيادة العالم
منذ نشأتها، تأرجحت السياسة الخارجيّة الأميركية (oscillated) بين الانعزال والقيادة العالميّة. بعد الحرب العالميّة الأولى، انسحبت واشنطن من مشروع عصبة الأمم، وهو ما أدخلها في عزلة سياسية واقتصادية. غير أنّ دروس الحرب العالمية الثانية دفعتها إلى الانخراط العميق في بناء النظام العالمي الجديد، عبر الأمم المتّحدة والناتو وخطّة مارشال.
في العقود الأخيرة، جسّدت رئاسة ترامب الأولى نزعة “أميركا أوّلاً” في أوضح صورها: انسحابات من اتّفاق باريس للمناخ، واليونسكو، وتهديد بالانسحاب من حلف الناتو. لكن كما أظهرت إدارات لاحقة، غالباً ما تتبع هذه الانعزالات إعادة انخراط، مدفوعة بضرورات الواقع الجيوسياسي وضغوط الحلفاء.
القرار الصادر بفرض عقوبات على أربعة قضاة في المحكمة الجنائية الدولية، بينهم القاضي الفرنسي نيكولا غيو، والقاضية الكندية كيمبرلي بروست، والمستشارتان القانونيّتان نزهت شيم خان من فيجي وميم نيانغ من السنغال، يمثّل امتداداً واضحاً للنهج الترامبيّ تجاه المؤسّسات الدولية.
برّر وزير الخارجية ماركو روبيو العقوبات بالقول إنّ المحكمة تشكّل “تهديداً للأمن القومي الأميركي والإسرائيلي”، متّهماً إيّاها بشنّ “حرب قانونية” ضدّ الولايات المتّحدة وحلفائها. وقد لاقت هذه الخطوة انتقادات واسعة من الأمم المتّحدة والاتّحاد الأوروبي، ووُصفت بأنّها “اعتداء صارخ على استقلال القضاء الدولي”، فيما رحّبت إسرائيل بها باعتبارها دفاعاً عن حقّها في مواجهة ما تصفه بـ”التحقيقات المسيّسة”.
على الرغم من التصعيد، يظلّ النظام الأميركي محصّناً ضدّ الانجراف نحو السياسات المتطرّفة بشكل دائم. فالتاريخ أثبت أنّ الانعزال أو التوتّرات الحادّة غالباً ما تكون عابرة:
– مكارثيّة الخمسينيّات (مرحلة العداء للشيوعيّة قادها السيناتور جوزف مكارثي) تراجعت مع إدراك الرأي العامّ لخطورة سياسات التخويف.
– احتجاجات فيتنام دفعت إلى إنهاء التجنيد الإجباري وإعادة تقويم الاستراتيجية العسكرية.
– فضيحة “ووترغيت” عمّقت الرقابة التشريعية وأكّدت مبدأ المساءلة حتّى للرئيس.
– مرحلة ما بعد حرب العراق والأزمة الماليّة أظهرت كيف يمكن للنظام الأميركي، على الرغم من الأزمات، أن يستعيد توازنه العالمي عبر الدبلوماسية والانخراط.
القدرة على استعادة الموقع
الولايات المتّحدة، مع كلّ التحديات، أثبتت قدرتها على إعادة التموضع واستعادة موقعها في قلب النظام العالمي. بعد فيتنام، أعادت بناء صورتها كقوّة دبلوماسيّة. وبعد حرب العراق، قادت جهوداً لمحاربة الإرهاب وإبرام الاتّفاق النوويّ مع إيران عام 2015. واليوم، مع التوتّرات مع المحكمة الجنائية الدولية، ما تزال لدى واشنطن قدرة كبيرة على إعادة صياغة دورها الدولي، مدفوعة بوزنها الاقتصادي والعسكري وشبكة تحالفاتها.
ليس القرار الأميركي الأخير بفرض عقوبات على قضاة المحكمة الجنائية الدولية إلّا حلقة جديدة في دورة مألوفة من الصدام مع المؤسّسات الدولية، امتداداً لنهج ترامب الذي يضع المصالح والسيادة الأميركية فوق كلّ اعتبار. لكنّ التاريخ يُثبت أنّ هذه الموجات من التصعيد تميل إلى الانحسار مع تغيّر الظروف وضغط التحالفات، فيُفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الانخراط وإعادة التوازن بين الداخل الأميركي والواقع الدولي.
موفق حرب
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.