من الرّوشة إلى الرّياض: ضاقت آفاق “الحزب”

7

بقلم د. عمر الفاروق النخال

«أساس ميديا»

لا يحتاج قهر بيروت إلى كثير من الشرح، ومحاولة بثّ صورة الأمينين العامَّين السابقين لـ”الحزب” حسن نصرالله وهاشم صفيّ الدين، على صخرة الروشة في ذكرى اغتيالهما، كانت استفزازاً صريحاً.

الرسالة قرأتها المدينة ببساطة: هناك من يريد تثبيت فائض قوّة رمزيّ فوق معلَمٍ يخصّ كلّ اللبنانيّين. جاء الجواب أوضح ما يكون: لا، لا لتحويل الذاكرة المشتركة إلى منصّة استعراض، لا لتغليب الراية الحزبيّة على الفضاء العامّ، لا لجرّ بيروت إلى خطاب القوّة في مكانٍ يُفترض أن يظلّ للناس والدولة.

يفضح هذا الرفض مأزقاً شعبيّاً لا يمكن تجميله. “الحزب” الذي تراجع عسكريّاً وسياسيّاً يتصرّف وكأنّ الصورة قادرة على تعويض السياسة، كأنّ الضوء على الصخرة يمكنه أن يمحو ظلالاً ثقيلةً راكمتها لغة التحدّي والغلبة.

لكنّ بيروت ليست جمهوراً يُستدرج بضغطة زرّ، بل هي عاصمة تقيس السياسة بمعيار الدولة، وتقرأ كلّ حركة على أنّها إمّا توسيعٌ للمشترَك أو تضييقٌ عليه. ما حدث عمليّاً أنّ هذا الاستعراض خسر لحظته، وكشف ميزاناً اجتماعيّاً جديداً كان فيها الناس أسرع من الأحزاب في حماية المجال العامّ من الاستفزاز.

من تجاعيد الصخرة الصامدة بات يفهم كثيرون تبدُّل نبرة الأمين العامّ الحاليّ لـ”الحزب” الشيخ نعيم قاسم في خطابه الأخير، حين طلب المصالحة مع السعوديّة.

ليس في طلب المصالحة ما يُعاب، بل على العكس هو واجب وطنيّ، لكنّ المغزى يقول إنّ “الحزب” أدرك متأخّراً عمق الجراح التي تركتها لغته في الذاكرة البيروتيّة، وإنّ محاولات الاستفزاز المتكرّرة على مدى عقدين لم تكن سوى نكء متواصل لهذه الذاكرة. لكن على الرغم من كلّ شيء الاعتراف بالجرح خطوة أولى، وأمّا التداوي فلا يكون بالكلام ولا ببيان نوايا عابر.

لا دولة مع سلاحَين

الحقيقة المباشرة التي لا تحتمل التواءً تقول إنّ المصالحة. طريقها واحد، وهو وضع السلاح تحت إمرة الدولة وتسليمه للجيش اللبناني، وإنهاء ازدواجيّة القرار الأمنيّ والعسكريّ. لا دولة مع سلاحَين، ولا شراكة سياسيّة مع تهديدٍ دائمٍ بقوّةٍ خارج الشرعية، مع تمكين حقيقيّ للمؤسّسات لبسط سلطتها على كامل الأراضي، بلا مربّعات، ولا خطوط تماسّ، ولا “استثناءات” لحساب أيّ تنظيم. عندها فقط يصبح الحوار مع الرياض امتداداً طبيعيّاً لتسويةٍ داخليّة صلبة، لا مناورة ظرفيّة.

المشوار السريع بين صخرة الروشة والرياض يلخّص خرائط الطريق الممكن. حين يعلو منسوب الاستفزاز تضيق المساحات، وحين تعود اللغة إلى أدب الشراكة تتّسع الآفاق. أثبتت بيروت مرّةً أخرى أنّها ليست مدينةً تُدار بالقوّة الناعمة للصورة ولا بالقوّة الخشنة للسلاح. أثبتت أن لا شيء يُقنعها إلّا لغة الدولة.

مرّةً جديدة، على واحد من معالم بيروت، تتكسّر لغة القوّة ويفرض الحوار نفسه سيّد الأحكام. هذه هي التوصية الأخيرة والأولى معاً: لا تستفزّوا مدينةً بنَت ذاكرتها بالحوار، ولا تراهنوا على صورةٍ فوق صخرتها.

الرهان الوحيد المجدي هو على الدولة، والدولة وحدها، وإذا كان في نيّة “الحزب” أن يفتح نافذةً نحو غدٍ مختلف، فدروسه مكتوبةٌ على الموج.

من صخرة الروشة إلى الرياض، لا طريق أقصر من طريق تسليم السلاح وبناء الثقة، وما عدا ذلك يبقى كلاماً في التكتيك، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

د. عمر الفاروق النخال

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.