من طنجة إلى الكويرة: المغرب استعاد صحراءه

1

بقلم محمد قواص

«أساس ميديا»

اقترب المغرب من إنهاء خمسين عاماً من صراعٍ بدا الخروج منه مستحيلاً. نزلت “برَكة” التحوّلات التي تداهم العالم والمنطقة على الصحراء الغربيّة، التي ما انفكّت الرباط تدافع عن مغربيّتها منذ نصف قرن. بات باستطاعة ملك البلاد محمّد السادس أن يخرج ليعلن أنّ “ما بعد 31 تشرين الأوّل لن يكون كما قبله”، وأن يبشّر المغاربة بأنّه “حان وقت المغرب الموحَّد من طنجة إلى الكويرة، الذي لن يتطاول أحد على حقوقه وحدوده التاريخيّة”. لكن كيف حدث ذلك؟

زحف المغاربة عام 1975 في “المسيرة الخضراء” خلف ملكهم الراحل الحسن الثاني لانتزاع الصحراء من إسبانيا. وحين تخلّى المستعمِر عن فريسته، ظهرت الطباع المعقّدة لقصّةٍ كادت تكون جميلة. وجد الصراع القديم بين المغرب والجزائر في “القضيّة” مادّة نكدٍ ما تزال من أبرز ملفّات الخلاف بين البلدين.

استندت الجزائر إلى استراتيجية اللعب خلف الكواليس، ووقفت باسم تراث البلاد الثوريّ في “دعم حقّ الشعوب في تقرير مصائرها” وراء جبهة البوليساريو ذات المطالب الاستقلاليّة. وبدا أنّ العالم انقسم في موقفه من مسألة الصحراء وفق مصالحه مع هذه الدولة أو تلك، ووفق اصطفافاتٍ تطوّرت وتحوّلت منذ اندثار الحرب الباردة، وصولاً إلى ذلك المشهد السورياليّ لجلسة مجلس الأمن يوم 31 تشرين الأوّل الماضي.

الأكل على موائد البلدَين

عرفتُ في باريس أوساطاً مغربيّة جلّها من التيّارات اليساريّة المناوئة لحكم الملك الحسن الثاني. راقبتُ الجدل الدقيق والحائر ليسارٍ متضامنٍ مع حقوق الشعوب، بما فيها الصحراويّة، ومتحيّزٍ للهويّة المغربيّة للصحراء. وحين فتح الملك الراحل صفحةً جديدةً مع المعارضة وعيّن أبرز قادتها عبدالرحمن اليوسفي وزيراً أوّل في البلاد عام 1998، تبدّدت تلك الحيرة الطارئة، وصار سهلاً لأيّ مراقبٍ استنتاج أنّ الصحراء قضيّةٌ وطنيّةٌ يحملها كلّ مواطنٍ داخل المملكة وخارجها وتحظى بإجماعٍ كاملٍ لا لبس فيه.

بدا أنّ الأمم المتّحدة ومبعوثيها تناوبوا على فتح “بازارات” لاحتمالات الحلّ. تراوحت السيناريوهات وتناقضت بين احتمال الاستقلال وسيناريوهاته العزيزة على قلب الجزائر والبوليساريو من جهة، وتمسّك المغرب من جهةٍ أخرى بالسيادة الكاملة على كامل الصحراء. وحين قدّمت الرباط عام 2007 لأوّل مرّة خطّةً مرنةً لإقامة حكمٍ ذاتيٍّ في الصحراء، ارتبكت الحسابات واختلطت، وناورت عواصم وتذبذبت مواقفها. انتهى كلّ ذلك، وبدت العواصم يوم الجمعة الماضي “مستسلمة” لخيار المغرب خطّةً وحيدةً يقوم التفاوض بشأنها لطيّ الملفّ وإقفال الجدل فيه.

يعرف المغاربة أنّ مسار السنين بين 1975 و2025 كان صعباً ومعقّداً وشائكاً، وكاد يكون مستحيلاً. يعرفون أنّ الرباط طرقت أبواب العالم، باباً باباً، لجذب العواصم إلى دعم قضيّتها في الدفاع عن السيادة على أقاليم البلاد الجنوبيّة. ولئن انقسم العالم في زمن الحرب الباردة انقساماً منطقيّاً مفهوماً متّسقاً مع انقسام أيديولوجيات نظام الجمهوريّة الجزائرية ونظام الملكيّة في المغرب، فإنّ الانقسام الدوليّ ما بعد اندثار ذلك الزمن بات أكثر جلافةً وتشظّياً وعبثيّة، بحيث غابت خطوط الخنادق، ولعبت المصالح وأحجية الأسواق ومزاج الاصطفافات أدواراً لإنتاج تيّاراتٍ أكثرها رماديٌّ وملتبسٌ وخبيث. وما دامت المسألة تغذّي خلافاً بين الجزائر والمغرب، تكثّفت الانتهازيّة لإنتاج مواقف تتيح الأكل على موائد البلدين.

وجب الاعتراف بنجاح دبلوماسيّةٍ رشيقةٍ براغماتيّةٍ مكثّفةٍ ودؤوبةٍ اعتمدتها الرباط للدفاع عن الصحراء. ووجب الإقرار أيضاً بأنّ تلك الدبلوماسيّة طوّرت موقفاً أميركيّاً انتهى إلى اعتراف الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب عام 2020 بمغربيّة الصحراء. شكّل ذلك الإعلان تحوّلاً مفصليّاً كبيراً في المزاج الدوليّ العامّ، وأحدث ارتداداتٍ أصابت عواصم أوروبيّة تأخّرت لكنّها التحقت بالقطار فأعلنت انتهاء الرماديّة والانحياز الكامل لخطّة المغرب. كانت الجزائر تراقب بقلقٍ ذلك الانقلاب المتدحرج في مواقف الدول حتّى طال روسيا والصين المعروفتين بعراقة علاقاتهما مع الجزائر.

مرونة خجولة؟

انتظر المغاربة جلسة مجلس الأمن في نهاية الشهر الماضي باهتمام. لكنّ مصادقة المجلس على مشروع القرار الذي يجدّد لبعثة الأمم المتّحدة (مينورسو) على أساس التفاوض على خطّة المغرب “الوحيدة” لم تكن مفاجئة. بدا أنّ تحوّلاتٍ دوليّةً بعضها معلن وبعضها غير ظاهرٍ للعيان استشرفت ذلك التطوّر. ظهر أنّ دبلوماسيّة الرباط تجاه روسيا والصين حيّدت تصويت البلدين ورفعت الحواجز من أمام تحوّلٍ ترعاه واشنطن وحاملو الفيتو الغربيّون في مجلس الأمن. صوّت المجلس بغالبيّة 11 صوتاً مع القرار، مع امتناع روسيا والصين وباكستان عن التصويت، وعدم مشاركة الجزائر في هذا التصويت، وهنا بيت القصيد.

اندفعت الجزائر منذ بداية العام الحالي إلى توقيع اتّفاقاتٍ عسكريّةٍ مع البنتاغون (من خلال “أفريكوم”)، فيما وعد سفير الجزائر في واشنطن، صبري بوقادوم، بتوسيع التعاون الاقتصاديّ بين البلدين ليشمل المعادن النادرة العزيزة على قلب ترامب. وبدا أنّ أموراً “تنضج وحان قطافها”.

في 19 تشرين الأوّل، أي قبل 12 يوماً من تصويت مجلس الأمن، كشف ستيف ويتكوف، المبعوث الخاصّ للرئيس الأميركيّ لمهامّ السلام في الشرق الأوسط، أنّ الولايات المتّحدة تعمل على وساطةٍ لإبرام اتّفاق سلامٍ بين المغرب والجزائر. ثمّ ألقى قنبلةً من العيار الثقيل، قائلاً: “سيكون هناك اتّفاق سلامٍ في الستين يوماً المقبلة”. قبله بيومين، ألقى مسعد بولس، مستشار ترامب للشؤون الإفريقيّة، بقنبلةٍ أخرى، إذ قال إنّ الجزائر ترغب في “حلٍّ أساسيٍّ ونهائيٍّ” لنزاع الصحراء الغربيّة، وكشف أنّه حين التقى الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون أخيراً “وجده منفتحاً على إعادة بناء جسور الثقة مع الشعب المغربيّ والملك والحكومة”.

لم تنفِ الجزائر رسميّاً معطيات ويتكوف ومسعد، لكنّها أرسلت عبر جبهة البوليساريو، التي لا تنطق إلّا وفق هوى الجزائر، ما يفيد بذلك. ففي 24 تشرين الأوّل، قبل أسبوعٍ من تصويت مجلس الأمن، كشف قياديّ الجبهة محمّد يسلم بيسط عن استعدادٍ لقبول الحكم الذاتيّ تحت السيادة المغربيّة، كما تقترحه الرباط، مشترطاً أن يأتي نتيجة استفتاءٍ يختاره الصحراويّون بأنفسهم.

تُظهر الجزائر مرونةً خجولةً لكنّها قابلةٌ للتطوّر، ربّما لتُلاقي تحوّلات هذا العالم ودعوة العاهل المغربيّ للرئيس الجزائريّ عبدالمجيد تبون من جديد قبل أيّام إلى “حوارٍ أخويٍّ صادق” لطيّ صفحة ماضٍ كاد لا ينتهي.

محمد قواص

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.