من هيروشيما إلى أوكرانيا: القنبلة النّوويّة على طاولة المفاوضات

5

بقلم محمد السماك

«أساس ميديا»

بعد هيروشيما وناغازاكي، فتحت أميركا أبواب الجحيم على مئات الآلاف من البشر، وأدخلت العالم عصر الردع النوويّ الذي لم يوقف الحروب، بل زادها رعباً. وبين الرئيس الذي أمر، والعلماء الذين صنعوا، والطيّارين الذين نفّذوا… يظلّ السؤال الأخلاقي معلّقاً: من يتحمّل المسؤولية الحقيقية عن أوّل وأفظع جريمة نوويّة في التاريخ؟

في مثل هذا الوقت (السادس والتاسع) من شهر آب من عام 1945، ألقت الولايات المتّحدة قنبلتين نوويّتين على اليابان. استهدفت الأولى مدينة هيروشيما، واستهدفت الثانية مدينة ناغازاكي. أدّى ذلك إلى مقتل أكثر من مئة ألف ياباني في هذين اليومين، وقتل التلوّث النوويّ فيما بعد عدداً مماثلاً. أمّا الرجل الذي قاد عمليّة إلقاء القنبلة، توماس ويلسون فيربي، فقد مات في فراشه الوثير في آذار 2000 (أي بعد 55 عاماً) عن عمر ناهز الواحد والثمانين، وهو قرير العين، مرتاح الضمير. بالنسبة له، كان يؤدّي مهمّة عسكرية، ونجاح المهمّة وضع حدّاً للحرب العالمية الثانية.

تصليح السّاعات؟

ولكن بالنسبة للمسؤولية الإنسانيّة، السؤال الذي لا يزال يُطرح حتّى اليوم هو: من المسؤول؟ هل تقع المسؤوليّة على الرئيس فرانكلين روزفلت الذي أطلق مشروع مانهاتن لإنتاج القنبلة النوويّة؟ هل تقع المسؤوليّة على العالم الفيزيائي اليهودي ألبرت أينشتاين الذي أقنع روزفلت بإمكان وبضرورة إنتاج القنبلة؟ هل تقع المسؤولية على العالم النوويّ الألمانيّ الأصل روبرت أوبنهايمر، الذي كان قائد فريق العلماء الذي أنتج القنبلة؟ أو على الرئيس الأميركي هاري ترومان نفسه، الذي أعطى الأمر بإسقاط القنبلتين؟

كان أينشتاين يهوديّاً ألمانيّاً، وكان يعرف أنّ العلماء الألمان قادرون على إنتاج القنبلة، وأنّهم يعملون على صنعها. وبذلك، أقنع الرئيس روزفلت باستعجال إنتاجها واستخدامها لحسم الحرب لمصلحة الولايات المتّحدة. وكان أمل أينشتاين أن تُلقى القنبلة الأولى على مدينة ألمانيّة، وليس على مدينة يابانية. غير أنّ الخوف من أن يصيب الإشعاع النووي الشعوب الأوروبية المتاخمة لألمانيا، أدّى إلى اختيار الهدف الياباني، حيث تتوافر ضمانات كافية بأنّ كلّ الضحايا، المباشرين وغير المباشرين، سيكونون من اليابانيّين وحدهم.

في شهر آذار 1945، أمطر الأميركيون العاصمة اليابانية طوكيو بالقنابل، فقتل 85 ألف ياباني. حمل هذا القصف حكومة الإمبراطور هيروهيتو على قبول البحث في شروط الاستسلام.

مع ذلك، أُلقيت القنبلة الأولى، ثمّ أُتبعت بالثانية بعد ثلاثة أيّام، وفي اليوم السادس اضطرّت اليابان إلى الاستسلام بلا قيد أو شرط. لم يكن استخدام السلاح النووي ضروريّاً لحمل اليابان على الاستسلام، لكنّه كان أداة لحملها على قبول استسلام مذلّ يعزّز الموقف الأميركي التفاوضيّ مع الاتّحاد السوفيتي السابق على اقتسام تركة عالم ما بعد الحرب.

لم يكن استخدام السلاح النووي ضدّ اليابان هدف أينشتاين. كان هدفه الانتقام من الألمان. ولقد أعرب عن خيبة أمله بعدما اطّلع على النتائج المروّعة لقنبلة هيروشيما بقوله: “لقد كان الأفضل لي لو عملت في تصليح الساعات بدلاً من العمل في علوم الفيزياء”.

لا اعتذار

ولكن قبل أن يُعهد إلى توماس فيربي برئاسة الفريق الذي قام بالمهمّة “رقم 13” المتعلّقة بإسقاط القنبلة على هيروشيما، اشترك في الحرب على الجبهة الأوروبية، وقام بثلاث وستّين عمليّة ضدّ مدن ألمانيّة، ومنها بصورة خاصّة مدينة درسدن التي تحوّلت مبانيها إلى أنقاض. وقد أدّى تفاهمه مع الطيّار العسكري بول تيبتس، ونجاحهما معاً في إصابة الأهداف الألمانية المقرّرة، إلى اختيارهما لمهمّة إلقاء القنبلة على هيروشيما.

أُخضع الفريق لتدريبات مكثّفة في جزيرة تنيان في المحيط الهادئ، وأُجريت لعناصره (11 طيّاراً) فحوصات وتحليلات نفسية معمّقة، قبل الانطلاق بطائرة “إينولا غاي” (التي يحتفظ بها سلاح الطيران الأميركي حتّى اليوم)، في رحلة استغرقت 13 ساعة دون توقّف إلى هدفها المنشود. ولذلك أُطلق رقم 13 اسماً على تلك المهمّة التي وضعت العالم أمام مرحلة جديدة من العلاقات اللاإنسانية.

حتّى اليوم، لم تعتذر الولايات المتّحدة لليابان بسبب إلقاء القنبلتين النوويّتين عليها خلال محادثات الاستسلام. كلّ ما فعلته واشنطن هو أنّها اعتذرت فقط إلى المواطنين الأميركيين من أصل ياباني الذين اعتقلتهم بصورة جماعية، وزجّتهم في معسكرات الاعتقال بحجّة الشكّ في ولائهم الوطني بعد عمليّة بيرل هاربور. فقد اعتُبر كلّ أميركي من أصل ياباني خائناً حتّى يثبت العكس. ولمّا ثبت العكس فعلاً، كان اليابانيون قد دفعوا الثمن الغالي من كرامتهم الإنسانيّة!!

أمّا الذين قُتلوا أو شُوِّهوا من جرّاء الانفجارين النوويَّين، فلم يُقدَّم إلى عائلاتهم، ولا إلى الدولة اليابانية، أيّ اعتذار، ولم تُبدِ الولايات المتّحدة أيّ ندم أو حتّى أيّ شعور بالأسف. كانت دائماً تُغطّي ما حدث بأنّه كان ضروريّاً لإنهاء الحرب ولوقف سفك دماء الآلاف من الجنود.

أكثر من ذلك، قاطعت الولايات المتّحدة طوال ستّة عقود الاحتفالات الرسمية والشعبية التي نظّمتها اليابان في مدينة هيروشيما حيث أُسقطت القنبلة الأولى، وحيث أُقيم نصب كبير تخليداً لذكرى الضحايا، إلّا أنّ الأميركيين لم يعترفوا أبداً بأنّهم ضحايا.

مخاطرة بمصير الإنسانيّة

لقد تعلّم العالم من مأساة هيروشيما – ناغازاكي درسين كبيرين:

الدرس الأوّل إنسانيّ يتعلّق بمدى الخسائر البشرية التي تسبّب بها الانفجار النوويّ، الذي لا يفرّق بين مدني وعسكري، أو بين إنسان وحيوان، أو بين بناء وشجر. فالموجة النووية تسحق كلّ شيء وتبيد كلّ حياة.

أمّا الدرس الثاني فهو كون الردع النووي وهماً.

توسّع النادي النووي منذ ذلك الوقت فتعدّى روسيا وفرنسا وبريطانيا، وشمل العديد من الدول النامية، بما في ذلك الهند وباكستان. ولقد شمل منذ عقود إسرائيل أيضاً، التي يُقدَّر حجم ترسانتها النووية بأكثر من 200 قنبلة. ولا يزال النادي يتوسّع سرّاً وعلناً، الأمر الذي يشير إلى أنّ القوّة التدميرية لأعضاء النادي النووي كافية لقتل كلّ إنسان على سطح الأرض 15 مرّة على الأقلّ!

هكذ لم تكتمل مهمّة رقم 13 فصولاً بعد. فلا تزال مستمرّة، ولو بأشكال متعدّدة… وفي مسارح مختلفة… وربّما آخر هذه المسارح القطب الشمالي، حيث أرسلت الولايات المتّحدة غوّاصتين تحملان رؤوساً نووية لتهديد روسيا، أو للردّ على التهديد الروسي الذي صدر عن الرئيس الروسي السابق ميدفيديف باستعداد روسيا للّجوء إلى السلاح النووي إذا ما اضطرّت إلى ذلك، على خلفيّة الحرب في أوكرانيا.

كانت هناك معاهدة أميركية – روسيّة مشتركة توفّر الطمأنينة لكلّ طرف إلى عدم اللجوء إلى السلاح النووي. ولكن بعد انسحاب الولايات المتّحدة من المعاهدة، سقطت الثقة، وحلّ الخوف محلّها… والخوف من السلاح النووي لا يحتمل أيّ خطأ في الحساب والتقدير.

من هنا، تُشكّل ذكرى هيروشيما (وناغازاكي) إنذاراً للعالم بأنّ التهديد الأميركي – الروسي المتبادل باللجوء إلى السلاح النووي ليس تكتيكاً سياسياً… إنّه مخاطرة بمصير الإنسانية.

محمد السماك

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.