نبيه بري رئيسًا للمجلس… وإلاّ.

67

بقلم دافيد عيسى

في لبنان لا تمرّ المواقفُ الهامة مرورَ الكرام، فكلّ كلمةٍ محسوبة، وكلّ تصريحٍ يحمل ما وراءه من رسائل.

لكن هذه المرة مرّ كلامُ رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» النائب محمد رعد، رغم أهميته، من دون أن يثيرَ الانتباه الذي يستحقّه، حين قال إنّه حتى لو غاب الرئيس نبيه بري من هذه الدنيا (لا سمحَ الله) «سنقيمه من القبر ونعاود انتخابه رئيسًا لمجلس النواب».

قد تبدو هذه العبارةُ غريبةً في حياتنا السياسية اللبنانية، لكنها تختصر واقعًا عبّر عنه بوضوح الحاج محمد رعد و(بالعربي المشبرح) من دون نبيه بري لا مجلس نواب، ولا انتخابات، ولا من يُنتخبون.

ما قاله محمد رعد ليس مجرّد مبالغةٍ عاطفية، بل رسالةٌ محسوبة مفادُها أن «الرئاسة الثانية» لم تعد موقعًا سياسيًا فحسب، بل ركيزةً من ركائز النظام اللبناني لا يمكن المساسُ بها من دون أن تهتزَّ بنيةُ الدولة بأسرها.

منذ عام ١٩٩٢ أمسك نبيه بري بدفّة مجلس النواب، وحافظ على موقعه كـ«صمّام أمان» في مرحلةٍ كانت ولا تزال مليئةً بالاهتزازات. في الأزمات الكبرى والانقسامات الحادّة، كان دائمًا عنوانَ الحوار وبوابةَ التسويات.

ومن عين التينة مرّت معظم الحلول، ومعه خرجت مخارج كثيرة جنّبت البلاد الانفجار.

خصومُ بري(رغم قلّتهم) قبل حلفائه، يدركون أن الرجل تجاوز حدودَ رئاسة المجلس ليُصبح ضمانةً سياسيةً ووطنيةً في بلدٍ لا يعيش إلا على توازناتٍ دقيقة ومساوماتٍ دائمة.

لكن هذا الواقعَ نفسه يطرح السؤالَ الكبير: هل الاستقرارُ في لبنان لا يمكن صونه إلا ببقاء بري في موقعه؟

الجواب الواقعي هو: نعم.

فالبلد الذي تتقاذفه الأزماتُ والتدخّلاتُ الخارجيةُ والطوائفُ والأحزابُ، لا يحتمل مغامراتِ التغيير المفاجئ ولا فراغًا في الموقع الذي يربط السلطاتِ ببعضها.

من هنا يمكن فهمُ تصريح رعد، فهو ليس «موقفًا وجدانيًا» فحسب، بل إعلانٌ سياسيٌّ صريح: إمّا بري رئيسًا للمجلس… أو لا انتخابات.

عبارةُ محمد رعد لم تأتِ من فراغ، بل من قراءةٍ عميقةٍ لمعادلةٍ داخليةٍ لا تزال تمسك بخيوط اللعبة.

أما في المرحلة المقبلة، فسيبقى هذا الموقف عاملًا حاسمًا في رسم مسار الحياة السياسية، خصوصًا في ظلّ استعصاء الاستحقاق النيابي وتزايد التجاذبات الطائفية والحزبية. فتمسّك فريقٍ أساسي ببقاء بري في موقعه لا يعكس فقط حاجةً شيعية إلى تثبيت التوازن داخل السلطة، بل أيضًا حرصًا ضمنيًا على إبقاء الخيط الواصل بين المكوّنات اللبنانية.

فاستمرار هذا التوازن، ولو بحدّه الأدنى، يشكّل الضمانة الوحيدة لبقاء الدولة متماسكة وسط عواصف الانقسام، إلى أن تنضج ظروف التسوية الوطنية الشاملة المنتظَرة.

دافيد عيسى

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.