ندوة تكريمية في الذكرى 25 لغياب ريمون إده
بقلم جوزف القصيفي
نقيب المحررين
“عندما دعاني الدكتور سايد درغام باسم اللقاء الوطني- حركة فكرية انسانية للتحدث في الندوة التكريمية للعميد ريمون اده الذي عاد إلى لبنان من منفاه الباريسي منذ ربع قرن، ليعانق في رقاده الاخير تربته التي أحب، وناضل- من موقعه كنائب، ووزير،ورئيس حزب -من أجل سيادته وصون استقلاله ونقله من دولة المزارع المتوالدة والمتناسلة إلى رحاب الدولة الديموقراطية التي تحترم حقوق الإنسان وتؤسس لحداثوية تكون جسر عبور لمستقبل واعد يحتضن التنوع والحق في الاختلاف، ويضيء على آفاق في حجم رسالة هذا الوطن المسكوني الذي يحتوي على غنى الانسانية النوعي، كما يقول موريس الجميل السياسي والمفكر، تهيبت الموقف. وقلت في سري : هل اعتذر عن عدم قبول الدعوة، أو أقدم مستجيرا بالله لكي استطيع ان أفي الموضوع حقه؟ إن هناك اسبابا عدة كانت تدفع بي إلى الاعتذار منها اني كنت زمن معرفتي بالعميد كتائبيا ملتزما، ناشطا، في المدرسة والجامعة والمجتمع، ومن بيئة على خصومة مع الكتلة الوطنية، وكانت تتحكم بي مشاعر متناقضة حيال هذا الرجل الذي عاش حياة سياسية صاخبة، يثير من حوله الضجيج اذا صرح، وتلهج الصالونات- وهو كان أحد أبرز نجومها- بالنكات التي كان يطلقها وتصيب سهامها الاقربين والابعدين، حتى أن السياسيين – ومنهم أصدقاء له ورفاق- كانوا يخافون لسعات لسانه ويتحاشونها . وفي الذكرى الخامسة والعشرين على رحيله لا يسعني إلا أن اشهد انه كان عنوان النزاهة والجرأة والعدالة، رافضا الظلم،ولا يخشى قولة الحق ولو في حضرة اعتى السلاطين جورا، وحريصا على الدستور وتطبيق القانون، ولا تعرف الطائفية والمذهبية إلى عقله وقلبه سبيلا”.
أضاف: “العميد إده كان يريد لبنان على مقاس تاريخه الحضاري، سيدا، مستقلا،لا تعلو قممه الا راية الارز ،وقلعة منيعة ممتنعة للديموقراطية في هذا الشرق البائس الذي افرغ هذه الكلمة من مضامينها. كان لريمون أده مناصرون كثرا في عائلة القصيفي التي أفخر بالانتماء اليها ، وكان عدد من اقارب والدتي في قريتي الكفور من أعمال فتوح كسروان من أركان الكتلة الوطنية محليا وعلى مستوى لبنان، وكان والدي الكتائبي على خصام دائم معهم منخرطا حتى العظم بسياسة حزبه. وأول إحتكاك لي بالعميد إده يرقى إلى مطالع سبعينيات القرن المنصرم عندما بدأت عملي الصحافي في ” جريدة البيرق”.
كنت ازوره صباح كل يوم مع زملاء لي في المهنة، بمكتبه الكائن في ساحة النجمة على بعد أمتار قليلة من المجلس النيابي، لتسقط الاخبار والوقوف على رأيه من الاحداث”.
وتابع: “كانت الحلقة تنعقد بحضور إميل خوري، فيليب ابي عقل، وانا ،إضافة إلى المرحومين أنيس غانم وفوزي مبارك . وكنت احاول إحراجه ببعض الأسئلة لاخراجه، وكان سريع الانفعال، مستنفرا لاطلاق أجوبة نارية تتناول الشيخ بيار الجميل والكتائب. وثمة من همس للأخير بأن اسئلتي ” الملغومة” للعميد هي وراء هجومه المتكرر عليه، فاستدعاني وطلب مني أن أكف عن هذا العبث لأنه لا يرغب السجال مع أحد، خصوصا مع ” العميد يللي لسانو ما بعوف حدا، كيف اذا هالحدا هوي انا، يا جوزف ريمون إده ناقم على الله،لانو خلقني”. وقد كرر لي رئيس الكتائب هذه العبارة عندما اتصلت به ذات ليلة طالبا رده على تصريح من العيار الثقيل تناوله فيه العميد، لنشره في جريدتي ” البيرق” و” العمل”. واذكر انه قال لي: ” كنت ساغلق سماعة الهاتف وعدلت عن ذلك، وانبهك باني ارفض أن يسألني احد عن ريمون اده، ولا يهمني ما يقوله، أصبحت معتادا عليه، ومعه فالج ما تعالج لن ارتاح من تعليقاته، ولن يكف عن اطلاقها ضدي إلا عندما توافيني المنية. اعمل معروف ما بقى تطلب مني رد على اي تصريح للعميد ” قالها بعصبية ” طابشا” السماعة بقوة”.
وقال: “وقد كتب الزميل غانم سلسلة مقالات في عدد من الصحف اللبنانية الصادرة في سيدني- اوستراليا يتحدث فيها عن ” المناكفات” مع إده، خصوصا عندما ” يتكهرب” من اي سؤال اطرحه عليه يرى فيه “بخا”، فيطلق العنان للسانه الذي يماثل سوط الحوذي عندما ينهال به على حصانه. ولست اعتقد ان الخصومة التي تشكلت بين الرجلين مردها تنافر الامزجة فحسب، لكنها تعود في جزء وازن منها إلى إختلاف كبير في الخيارات السياسية والنظرة إلى كيفية إدارة شؤون البلاد. وفي الجامعة اللبنانية كنا نلتقي محازبي ما كان يطلق عليه ” الحلف الثلاثي”: الكتائب اللبنانية، الوطنيون الاحرار، الكتلة الوطنية في إطار:” حركة الوعي – القوة الجامعية اللبنانية” إلى جانب ممثلين عن تجمعات مناطقية، ونشأت صداقات متينة بيني وبين عدد من أركان طلاب الكتلة حينذاك ،وكانت تجمعنا مناسبات مختلفة من دون أن يفسد الخلاف في الود قضية. واذكر مرة أن صديقة العمر كلود بويز،الامينة العامة السابقة للحزب التي أحيت نبضه طوال فترة ولايتها في منصبها، دعتني ورفيقة لي في كلية التربية تنتمي إلى حزب الكتائب إلى عشاء ساهر أقامته الكتلة في فندق ” فينيسيا”، وكان ” العميد” وأركان حزبه في استقبال المدعوين ففاجأه وجودي وقال بصوت عال:” فالانكو في ديارنا” وتوجه إلى رفيقتي وكانت على درجة عالية من الجمال وذات ابتسامة ساحرة” كيف بتضهري يا مسكينة مع هالكتائبي ” فكان ردها سريعا” يا عميد انا كتائبية ونسيبة الدكتور جورج سعاده” فرد ضاحكا:”ضيعانك ما بهنيكي…شو صايبك حتى وقعتي هالوقعه” وسألها:”بيطلعلي بوسي انا بحب الحلوين” وكان له ما أراد”.
وقال: “هناك الكثير من القفشات والنكات التي لا يسمح الوقت بايرادها. وهي تدل الى روح الدعابة المتمكنة منه، وسرعة الخاطر المتأصلة فيه، والجرأة التي تتجاوز حدود التخاطب السلس إلى ما يجرح ويستولد الحقد أحيانا ويقول نائب رئيس حزب الوطنيين النائب والوزير الراحل كاظم الخليل-رحمه الله- في مذكراته غير المنشورة والتي ستدفع إلى الطبع قريبا ان العميد ريمون إده كان يتعمد “استفزاز الشيخ بيار” و” زكزكته ” في الاجتماعات التي كان يعقدها ” الحلف الثلاثي” في منزله على طريق المطار فترتذاك،إذ كان ” العميد” يتناول من جيبه جريدة ويتظاهر بقراءتها في كل مرة يعطى الحديث للشيخ بيار أثناء الاجتماع، وكان الخليل يتدخل منتهرا العميد طالبا اليه طي الجريدة، والاستماع إلى رئيس الكتائب،وكم مرة استدعاه إلى غرفة جانبية ليدخل معه في” خناقة” على هذا التصرف. وآخر مرة التقيت فيها العميد إده كانت في مطلع التسعينيات في باريس بمطعم ” فوشون” في ” المادلين” بدعوة من النقيب ملحم كرم- طيب الله ثراه- بحضور المحاميين فايز ساره،ورودريك حويس، وكان اللقاء مفعما بالود والحنين إلى الايام المنصرمة، وتطلع إلى النقيب كرم قائلا :” صاحبك كل قرايبو كتلويي، سواء من جهة امو وجهة بيو..”.
وتابع: “يا قصيفي ولا كلمة سياسة الليلة، خلينا ننكت ونحكي نهفات عن صاحبنا وصاحبك المير مجيد يللي بحبو كتير ” وكان يقصد المغفور له الأمير مجيد أرسلان. وهكذا كان. هذه الباقة من الطرف ابحت لنفسي سردها مع بعض التصرف إجلالا لحرمة الموت وحرصا على مشاعر ذوي من كانوا هدفا لنكاته ومقالبه، بعدما أصبح هؤلاء طي اللحد”. ولا بد ومن باب التذكير، والإضاءة أن أشير إلى ثلاث:
اولا: كانت تربط آل إده بآل الجميل علاقات صداقة وطيدة زمن المغفور لهم الرئيس إميل إده، الصيدلي يوسف الجميل، والدكتور امين الجميل، الذين فروا من لبنان إلى أرض الكنانة بعدما بلغت الاخير معلومات موثوقة أن العثمانيين سيلقون القبض على هؤلاء الثلاثة ويسوقونهم إلى الديوان العرفي في عاليه، وربما سيعلقون على حبل المشنقة. معا غادروا لبنان ومعا عادوا. وكان اده الاب مع الصيدلي يوسف من أركان حزب الكتلة الوطنية ، ورشح الأول الثاني لرئاسة الجمهورية، فاعتذر. بيد ان هذه المودة لم تنتقل إلى الأبناء ، كما لم تسر بينهم ” الكيمياء” وفرقتهم السياسة، وباعدت كثيرا، لكن ذلك لم يمنع قيام تحالفات سياسية وانتخابية ظرفية بين حزبي الكتائب اللبنانية والكتلة الوطنية، والتعاون الوزاري في غير حكومة، ولاسيما الحكومة الانقاذية الأولى بعد أحداث العام 1958، والائتلاف الطالبي على مستوى جامعات لبنان.
ثانيا: كان الود مفقودا بين الرئيس كميل شمعون والاخوين ريمون وبيار اده، ورفض الأول دعم ترشيح أحدهما لخلافته في رئاسة الجمهورية قبيل انتهاء ولايته في العام 1958،مؤثرا عليهما قائد الجيش فؤاد شهاب،وذلك لأسباب لا مجال لذكرها في هذا الملتقى. ومع ذلك تحاشى الاثنان تبادل” اللكمات” الكلامية إلا نادرا وباسلوب لا يخلو من التورية والغمز ، على عكس ما كانت حال العميد مع الشيخ بيار.
ثالثا: هناك تشابه كبير بين اللواء فؤاد شهاب الذي خلف شمعون في رئاسة الجمهورية وبين العميد ريمون إده لناحية الايمان بضرورة بناء دولة عصرية، وإدارة رشيقة، ومؤسسات فاعلة، وقضاء نزيه، وعدالة إجتماعية. لكن هذا التشابه لم يترجم تعاونا بينهما، وسرعان ما استحال عداء مكشوفا، بعدما ترسخت لدى العميد قناعة بأن العهد الشهابي جنح إلى عسكرة “مقنعة” تأباها طبيعته الرافضة لكل ما يتنافى مع مرتكزات الدولة المدنية، ودعامتها الأولى الحرية والديموقراطية”.
وختم: “قد يكون لغيري تقويم آخر لريمون إده، وتقدير مختلف لسلوكه السياسي، ومواقفه الحادة والقاطعة كشفار السيف، ولاسلوبه اللاذع في انتقاد اخصامه ومن لا تروق له سياساتهم، إلا أنه كان عنيدا…عنيدا بالحق ومن أجله…لم تتلوث يداه بمال حرام، عاش موفور الكرامة، مرفوع الجبين، ناصع الكف، وهكذا مات على رجاء قيامة وطن احبه ولم يقترع على ثيابه، أو يبيعه بثلاثين من الفضة”.
جوزف القصيفي
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.