نيويورك: من 11 أيلول إلى عمدةٍ مسلم مهاجر

2

بقلم موفق حرب

«أساس ميديا»

في لحظةٍ تُعيد رسم ملامح الهويّة الأميركيّة، اختارت نيويورك المدينة، التي كانت يوماً رمزاً للجراح بعد 11 أيلول 2001 حين وقف عمدتها رودي جولياني رافضاً مساهمة ماليّة من الأمير الوليد بن طلال لمساعدة أهالي الضحايا، أن يقودها مسلمٌ اشتراكيٌّ من أصولٍ مهاجرة. اسمُه زوهران ممداني، السياسيّ الشابّ الذي خرج من قلب الحركات الشعبيّة وأصبح فجأةً عنواناً لمرحلةٍ جديدةٍ في الوعي الأميركيّ، تتجاوز الخوف من الآخر لتحتفي بالتنوّع كقيمةٍ وقوّةٍ في آنٍ واحد.

ليست نيويورك مدينةً وحسب، بل إنّها مرآة أميركا نفسها. وانتخاب زوهران ممداني، المولود في أوغندا لأبوين من أصولٍ هنديّة، يشكّل لحظة تحوّلٍ في الوعي الجماعيّ الأميركيّ. بعد أكثر من عقدين على شيطنة المسلمين، صوّت سكّان المدينة لأحدهم كي يقودهم.

صعود ممداني هو تمرّدٌ على المؤسّسة التقليديّة. في الرابعة والثلاثين من عمره، يجسّد روح الجيل التقدّميّ داخل الحزب الديمقراطي: متعدّد الخلفيّات، ناشط، ومؤمن بالعدالة الاجتماعيّة أكثر من إيمانه بوعود “وول ستريت”. برنامجه الانتخابيّ تجميد الإيجارات، النقل المجّانيّ والشرطة المجتمعيّة. كان قبل سنواتٍ يُعتبر راديكاليّاً. اليوم صار جزءاً من التيّار السائد في أكبر مدن أميركا.

إذا كان انتخابُ باراك أوباما أوّل رئيسٍ أسود في تاريخ الولايات المتّحدة عام 2008 علامةً فارقةً في مسار العدالة العرقيّة، فإنّ انتخاب زوهران ممداني يحمل دلالةً موازيةً في سياق التحوّل الثقافيّ والدينيّ داخل المجتمع الأميركيّ. كسر أوباما الحاجز العرقيّ الذي ظلّ قائماً منذ تأسيس الجمهوريّة، وممداني اليوم يكسر الحاجز الدينيّ والثقافيّ الذي ازداد صلابةً بعد أحداث 11 أيلول. الفارق أنّ أوباما جاء في لحظةٍ كانت أميركا تبحث فيها عن “التكفير عن ماضيها” في قضيّة العنصريّة، بينما يأتي ممداني في مرحلة إعادة تعريف الهويّة الأميركيّة ذاتها في وجه صعود الشعبويّة، والخوف من الآخر، وانقسام المجتمع بين تيّارين متنازعَين على معنى الوطن.

الحزب الدّيمقراطيّ أمام وجهه الجديد

داخل الحزب الديمقراطيّ، يُعدّ فوز ممداني نقطة تحوّلٍ أيديولوجيّة. بالنسبة إلى المعتدلين، هو مغامرة ودليل على أنّ قاعدة الحزب في المدن الكبرى انحازت إلى اليسار، وهو ما قد ينفّر الناخبين في الولايات المتأرجحة. أمّا بالنسبة إلى التقدّميّين، فهو برهانٌ على أنّ الطاقة الشعبيّة قادرة على هزيمة المال والنفوذ.

إذا نجح ممداني في إدارة مدينة نيويورك المنقسمة والمثقلة بالأزمات، فسيقدّم نموذجاً جديداً للحزب: شعبويّةً اقتصاديّة بملامح أخلاقيّة وإنسانيّة. أمّا إذا فشل فسيحوّله خصومه إلى دليلٍ على فوضى “اليسار الراديكاليّ”. في الحالتين، لن يتمكّن الديمقراطيّون من تجاهل القاعدة التي أوصلته إلى السلطة.

لا يمكن التقليل من أهميّة الانتصار في نيويورك: فهي عاصمة الرأي العامّ الأميركيّ، ومن يفوز بها يملك منصّة ضخمة للتأثير في النقاش الوطنيّ. نجاح ممداني هناك يمنح التيّار التقدّميّ صوتاً مسموعاً في الإعلام والمال والثقافة، أي في مراكز القوّة التي تصنع المزاج السياسيّ في الولايات المتّحدة بأسرها.

الاشتراكيّة… الشّبح الذي عاد بثوبٍ جديد

لطالما كانت كلمة الاشتراكيّة تُثير الذعر في الوجدان الأميركيّ. منذ الحرب الباردة، ارتبطت بالفقر، بالقمع وبالعدوّ السوفيتيّ. في الخمسينيّات، كانت تهمة الانتماء إلى اليسار كافية لتدمير حياةٍ كاملة، وفي تلك الحقبة تحديداً سُجن الزعيم الاشتراكيّ يوجين ديبس مرّاتٍ عدّة لدفاعه عن العدالة الاجتماعيّة.

في خطابه بعد فوزه، استعاد ممداني كلمات ديبس الشهيرة: “أستطيع رؤية فجر يومٍ أفضل للإنسانيّة”. بهذا الاقتباس، لم يكن ممداني يمجّد الماضي بقدر ما كان يذكّر أميركا بأنّ التعدّديّة الفكريّة ليست جريمة، وأنّ الدفاع عن المساواة ليس خيانةً وطنيّة.

لا يرفع راية الاشتراكيّة بمعناها الكلاسيكيّ، بل يقدّمها بوجهٍ إنسانيٍّ أميركيٍّ جديدٍ يوازن فيه الاقتصاد بين السوق والعدالة، ولا تخاف الدولة من التدخّل لحماية الضعفاء. ومع ذلك، يبقى التحدّي كبيراً: فالمجتمع الأميركيّ، الذي تربّى على الحلم الفرديّ والثراء الشخصيّ، ما يزال ينظر بريبةٍ إلى أيّ مشروعٍ يُذكّره بتجارب فاشلة في أوروبا الشرقيّة أو أميركا اللاتينيّة.

إنّها مفارقةٌ أميركيّة بامتياز: أمّةٌ تخاف من الاشتراكيّة، لكنّها تصوّت، من حينٍ إلى آخر، لمن يُجسّد بعضاً من روحها.

تحدٍّ وهديّة لترامب في آنٍ واحد

بالنسبة إلى دونالد ترامب، يمثّل ممداني خصماً أيديولوجيّاً مباشراً، لكنّه أيضاً فرصةٌ سياسيّة ذهبيّة. فهو يجسّد كلّ ما يعارضه خطاب ترامب: مسلم، مهاجر، واشتراكيّ في قلب المدينة التي بنى فيها ترامب مجده الشخصيّ. لذا من الطبيعيّ أن يبدأ الهجوم عليه بـ”يساريّ”، “ضعيف أمام الجريمة” و”معادٍ لإسرائيل”.

رمزيّة اللحظة ثقيلة بقدر ما هي مؤثّرة. المدينة التي كانت رمزاً للألم والخوف بعد هجمات 2001، أصبحت اليوم تُدار على يد مسلم. تختصر هذه المفارقة قدرة المجتمع الأميركيّ على التغيير والمراجعة والتعافي. إنّها لحظةٌ تقول للعالم: نيويورك لا تنسى، لكنّها تتعلّم وتتقدّم.

إنّه تذكيرٌ بأنّ القيادة لا تحدّدها الهويّة الدينيّة بل الكفاءة والرؤية، وأنّ المشاركة الفاعلة قادرة على تفكيك جدران الشكّ والخوف التي بناها عقدان من الخطاب العدائيّ.

مختبر المستقبل الأميركيّ؟

قد تكون نيويورك ممداني مختبراً لمستقبل السياسة الأميركيّة: مواجهةً بين التقدّميّة والشعبويّة، بين التنوّع والانغلاق. فإذا استطاع أن ينجز إصلاحاته في مدينةٍ تعاني من الفقر والتفاوت والاحتقان، فسيُثبت أنّ التعدّديّة ليست ضعفاً بل مصدر قوّة.

ليست قصّته أميركيّةً فقط، بل هي إنسانيّة أيضاً تقول إنّ الولايات المتّحدة، مع كلّ انقساماتها وصراعاتها، ما تزال تملك القدرة على إعادة ابتكار نفسها.

في النهاية، ليس انتخاب زوهران ممداني فوزاً سياسيّاً وحسب، بل إنّه اختبارٌ لفكرة أميركا ذاتها، أميركا التي تسقط وتنهض، تتجادل وتتصالح، وتُعيد تعريف معنى أن تكون أميركيّاً.

موفق حرب

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.