وعد بلفور: النّزيف المستمرّ
بقلم محمد السماك
«أساس ميديا»
ماذا يجري في جنوب لبنان؟ وماذا يجري بين سوريا وإسرائيل في مرتفعات الجولان؟ وماذا بعد الذي جرى ويجري في غزّة والضفّة الغربيّة؟ الجواب على هذه الأسئلة في نصّ وثيقة “وعد بلفور” الذي صادفت ذكرى صدوره هذا الأسبوع (2 تشرين الثاني 1917).
عن جنوب لبنان تقول بعض الوثائق البريطانية المرتبطة بوعد بلفور: “إذا كان للصهيونية أن تؤثّر على المشكلة اليهوديّة في العالم فينبغي أن تكون فلسطين متاحة لأكبر عدد من المهاجرين اليهود. ولذا من المرغوب فيه أن تكون لها السيادة على القوّة المائيّة التي تخصّها بشكل طبيعيّ، سواء أكان ذلك عن طريق توسيع حدودها شمالاً (أي باتّجاه لبنان)، أم عن طريق عقد معاهدة مع سورية الواقعة تحت الانتداب (الفرنسي) والتي لا تعتبر المياه المتدفّقة من “الهامون” جنوباً ذات قيمة بالنسبة لها. وللسبب ذاته يجب أن تمتدّ فلسطين لتشمل الأراضي الواقعة شرق نهر الأردن”.
أنين تحت وطأة الهجرة
إنّ قراءة هذا النصّ اليوم تُضيء على النوايا الإسرائيليّة التوسّعية التي تستهدف الأردن بعد سوريا ولبنان. وتُضيء قراءة النصّ أيضاً على مبدأ التعامل مع الحقوق الوطنيّة للشعب الفلسطينيّ، وهي حقوق يعتبرها القائمون على وعد “بلفور” غير موجودة لأنّهم لا يعترفون في الأساس بوجود شعب فلسطينيّ. وهذا ما يظهر في الكثير من النصوص والوثائق والمداولات التي واكبت تلك المرحلة.
تقول إحدى هذه الوثائق: “ليست في نيّتنا حتّى مراعاة مشاعر سكّان فلسطين الحاليّين، مع أنّ اللجنة الأميركيّة تحاول استقصاءها. إنّ القوى الأربع الكبرى ملتزمة بالصهيونية، وسواء كانت الصهيونية على حقّ أم على باطل، جيّدة أم سيّئة، فإنّها متأصّلة الجذور في التقاليد القديمة العهد والحاجات الحاليّة وآمال المستقبل، وهي ذات أهميّة تفوق بكثير رغبات وميول السبعمئة ألف عربيّ الذين يسكنون الآن هذه الأرض القديمة”.
في الأساس كان المجتمع البريطانيّ يئنّ تحت وطأة الهجرة اليهوديّة المتدفّقة من شرق أوروبا نتيجة الحملات العنصريّة ضدّ اليهود. وكان هناك تخوّف من أن تنفجر هذه الحملات في بريطانيا ذاتها، فكانت فكرة تحويل الهجرة إلى فلسطين التي كانت تحت الانتداب البريطانيّ. حتّى إنّ مؤسّس الحركة الصهيونيّة تيودور هرتزل نفسه كان يطالب بوطن يهوديّ في مكان ما من شرق إفريقيا (أوغندا). إلّا أنّ الحركة الدينية البريطانية وقتذاك عارضت ذلك وأعطت تحويل تدفّق المهاجرين اليهود إلى الشرق الأوسط (فلسطين) بُعداً دينيّاً.
وطنٌ لليهود فقط؟
ربّما من أبرز الدلالات على الربط الاستراتيجيّ بين أهداف الحركة الصهيونيّة وأهداف الدولة البريطانيّة ما ذكرته صحيفة “مانشستر غارديان” بقلم رئيس تحريرها في ذلك الوقت (1916) تشارلز سكوت، الذي قال: “كانت بلاد ما بين النهرين مهد الشعب اليهوديّ ومكان منفاه في الأسر. وجاء من مصر موسى مؤسّس الدولة اليهوديّة. وإذا ما انتهت هذه الحرب بالقضاء على الإمبراطوريّة التركيّة في بلاد ما بين النهرين، وأدّت الحاجة إلى إنشاء جبهة دفاعيّة في مصر إلى تأسيس دولة يهوديّة في فلسطين، فسيكون القدر قد دار دورة كاملة”.
أمّا عن أهل فلسطين، فإنّ الكلام الذي يُقال اليوم هو نفسه الكلام الذي كان يُقال قبل 82 عاماً أيضاً. فقد قال سكوت: “ليس لفلسطين في الواقع وجود قوميّ أو جغرافيّ مستقلّ إلّا ما كان لها من تاريخ اليهود القديم الذي اختفى مع استقلالهم. ولذلك عندما أطلق عليها بلفور اسم وطن قوميّ لم يكن يعطي شيئاً يخصّ شخصاً آخر. إنّها روح الماضي التي لم يستطع ألف عام أن يدفنها، والتي يمكن أن يكون لها وجود فعليّ من خلال اليهود فقط. لقد كانت فلسطين هي الأرض المقدّسة للمسيحيّين، وأمّا بالنسبة لغيرهم فتُعتبر تابعة لمصر أو سورية أو الجزيرة العربية، لكنّها تُعدّ وطناً قائماً بذاته بالنسبة لليهود فقط”.
هكذا صدر وعد بلفور في تشرين الثاني 1917 بهذه الخلفيّة من الحقد والضغائن، وقد فتح جرحاً لا يزال ينزف دماً في غزّة والضفّة الغربيّة، وفي الجولان وجنوب لبنان، حتّى يقضي الله أمراً كان مفعولا.
محمد السماك
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.