لبنان- سوريا: باريس “تنبش” أرشيف سايكس بيكو

36

بقلم محمد قواص

«أساس ميديا»

لم تعترف سوريا، وخصوصاً في ظلّ حكم البعث، ولا سيما تحت سلطة الأسد، الأب والابن، باستقلال لبنان. اعتبرت روحيّة الحكم في دمشق أنّ ما يسمّى استقلالاً لا يعدو كونه انفصالاً عن الوطن الأمّ، وفق “مشرط” اتفاق سايكس – بيكو لعام 2016 الذي، بالمناسبة، رسم أيضاً حدود سوريا واستقلالها. لم يظهر الموقف السوري بنصّ رسميّ حازم، لكنّ رفض ترسيم الحدود (داخل البلد الواحد) ورفض فتح سفارة سوريّة في بيروت حتّى عام 2008، من العلامات الفاضحة التي تربّى عليها جيل من السوريّين لتحقير استقلال لبنان وعدم الإقرار بشرعيّة كيانه.

بدا أنّ لبنان لم يهتمّ في سنوات ما بعد الاستقلال بضرورة خوض معركة مع دمشق من أجل ترسيم الحدود إلى أن برزت فجأة مسألة مزارع شبعا. فحتّى حين تقدّمت أدوات “شرطيّة” للدولة السورية داخل تلك المنطقة المفترض أنّها لبنانية في خمسينيّات القرن الماضي، تجنّبت بيروت التصادم مع دمشق بشأن منطقة من المناطق الحدودية الكثيرة المتنازَع عليها. والأرجح أنّ حكم تلك المرحلة في بيروت كان يعتبر “المزارع” شأناً هامشيّاً لا يستحقّ جلبة لن تسمعها دمشق ولن تنصت لها عواصم الدنيا.

استعصاء لبنانيّ أيضاً

لم يكن التمنّع عن فتح ملفّ الترسيم سوريّاً فقط. نهل الأمر قوّته من استعصاء آخر من داخل لبنان نفسه من قوى سياسية واسعة كانت “تكفّر” اتّفاق سايكس – بيكو وتندب اليوم الذي ضمّ فيه “الأقضية الأربعة” إلى جبل لبنان. كان طيف كبير من مسلمي لبنان يلعنون الحدود مع الوطن العربي الكبير، فيما الطيف الطاغي من مسيحيّي لبنان ينادون بترسيم وتدعيم تلك الحدود ورفع أسوارها. وطالبت حكومة فؤاد السنيورة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري سوريا بترسيم الحدود باعتباره تدبيراً يلتحق بانسحاب قوّاتها من لبنان عام 2005.

احتاجت بيروت إلى ترسيم عاجل يحدّد هويّة مزارع شبعا. أعلن “الحزب” وبيئة محور دمشق – طهران أنّ الانسحاب الذي نفّذته إسرائيل في 25 أيّار 2000 وادّعت أنّه تنفيذ للقرار الأممي 425 غير كامل. قدّم لبنان في ظلّ وصاية دمشق وهيمنة “الحزب” حجّة “المزارع” مبرّراً لاستمرار شرعيّة “الحزب” وترسانته العسكرية واستمرار الصراع جنوب البلد.

لم تقبل دمشق الترسيم، ولم تُدلِ بما يثبت لبنانيّة “المزارع”، ولم تقدّم للأمم المتّحدة خرائط شافية تحسم الجدل القانوني السياسي ويغلق ملفّ الانسحاب الإسرائيلي. اكتفت دمشق بإنتاج ديباجة شعبويّة تقول إنّ “المزارع” محتلّة وعلى المحتلّ الانسحاب، سواء كانت تلك المنطقة سوريّة أم لبنانية. وبدا أنّ في الأمر بدعة لا تستقيم في علم العلاقات الدولية وقوانين ترسيم الحدود بين الدول.

تبدّل المشهد الإقليميّ

غير أنّ المشهد الإقليمي قد تحوّل. صنعت حرب غزّة موازين إقليمية جديدة. تغيّر وجه الحكم في سوريا ولبنان، وضعف نفوذ إيران في البلدين. باتت فكرة ترسيم حدود البلدين أمراً ملحّاً ومطلوباً دوليّاً. أشرفت الولايات المتّحدة على ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل وتخطّط لرعاية مفاوضات لترسيم الحدود البرّية بينهما.

في المقابل، صار ترسيم الحدود اللبنانية السوريّة جزءاً من إعادة اهتمام دول العالم بسوريا، ومفتاحاً مهمّاً لحلّ قضايا أساسيّة واستراتيجية في تحديد مستقبل التحوّلات الضبابية، التي لاح ظهورها منذ “تواطؤ” “العواصم” على انتخاب الرئيس جوزف عون رئيساً وإشرافها على تشكيل حكومة برئاسة نوّاف سلام.

في 8 أيّار الجاري، وبعد “وعد” قطعه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لنظيره اللبناني في أثناء زيارة الأخير لباريس في آذار الماضي، سلّم سفير فرنسا في بيروت هيرفيه ماغرو وزير الخارجية اللبناني يوسف رجّي نسخة من الأرشيف الفرنسي المتعلّق بترسيم الحدود بين لبنان وسوريا. كانت فرنسا سلطة انتداب على البلدين ويمكن لوثائقها أن تكون حجّة حازمة تستعين بها بيروت في مفاوضاتها “الموعودة” مع دمشق لترسيم الحدود.

مضمون الوثائق

تشمل الوثائق المقدَّمة خرائط طوبوغرافية ودراسات استقصائية ميدانية وتقارير إدارية للانتداب ووثائق تعيين للحدود يعود تاريخها إلى الفترة الممتدّة من عشرينيّات القرن العشرين إلى الخمسينيّات منه. وتتضمّن الوثائق خرائط تغطّي الحدود البرّية بأكملها، من عكّار إلى الهرمل، إلى جنوب البقاع، ومحضر اللجان الميدانية المشتركة لعامَي 1934 و1941، وسلسلة من الملاحظات السرّية المتبادلة بين المفوضيّة العليا الفرنسيّة في بيروت ودمشق، وتقرير مؤرَّخ عام 1951 عن ترسيم الحدود في المناطق الحسّاسة، ولا سيما المناطق الواقعة في قلمون ووادي خالد.

لئن يُعتبر هذا التطوّر حدثاً دبلوماسياً لافتاً قد يندرج في إطار العلاقة الخاصّة التي تربط فرنسا بلبنان، والهمّة التي أظهرها ماكرون لدعم البلد في السنوات الأخيرة، غير أنّ ذلك لا يمنع من طرح أسئلة حائرة بشأن كلمة السرّ التي دفعت باريس للاستفاقة على وجود هذا الأرشيف، ولماذا تمّ التغافل عن امتلاك باريس لخرائط ووثائق وسجلّات في هذا الصدد لطالما كانت بيروت تحتاج إليها لدعم ملفّها أمام دمشق في ظلّ نظام بشّار الأسد ولتقوية حججها القانونية لدى الأمم المتّحدة؟

قد لا نجد أجوبة آنيّة على تطوّر ستكشف الأيّام حيثيّاته وضروراته وأهداف استثماراته. لكنّ أمر “إفراج” فرنسا عن وثائق حدوديّة لبنانية سوريّة وإيصالها إلى حكومة لبنان أتى غداة استقبال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الرئيس السوري أحمد الشرع، في 7 أيّار، وهو ما قد يُفهم أنّه توافق بين الرئيسين بشأن هذا الملفّ. لكن قد يُفهم أيضاً تبايناً دفع باريس لإنجاد لبنان بأوراق داعمة، لعلّ ترسيم حدود البلدين يدخل ضمن الأشهر الستّة التي اقترحها ماكرون مهلةً لتفحّص إنجازات الشرع وحكمه.

استجابة للجهود السّعوديّة

تستجيب فرنسا أيضاً لجهود سعوديّة قادت في 27 آذار الماضي في جدّة إلى توقيع وزير الدفاع اللبناني ميشال منسّى ونظيره السوري مرهف أبو قصرة اتّفاقاً أكّدا فيه “الأهميّة الاستراتيجيّة لترسيم الحدود بين البلدين، وتشكيل لجان قانونية متخصّصة منهما في عدد من المجالات، وتفعيل آليّات التنسيق بين الجانبين للتعامل مع التحدّيات الأمنيّة والعسكرية، وبخاصّة ما قد يطرأ على الحدود بينهما”.

لفرنسا طموحات سياسية واقتصادية إلى القيام بدور متقدّم في لبنان وسوريا. احتفلت دمشق وباريس في الأوّل من الشهر الجاري بتوقيع عقد لمدّة 30 عاماً مع شركة “سي إم إيه سي جي إم” الفرنسية، لتطوير وتشغيل ميناء اللاذقية. تسعى باريس لتوسيع حضورها في برامج إعادة الإعمار في البلدين، لكنّها تعمل أيضاً على الإشراف على ورشة كبرى لترسيم الحدود البحريّة بين سوريا ولبنان وقبرص واليونان.

كان ماكرون قد نظّم في 28 آذار الماضي، حضوريّاً وعن بعد، قمّة جمعته والشرع مع رؤساء تلك الدول. وقيل إنّ ذلك الحدث كان مفتاحاً لفتح أبواب باريس أمام الرئيس السوري. لكنّ باريس لاحظت أنّ عيوناً في تركيا تراقب، ويقلقها حراك بحريّ لا يشملها، وأنّ تلك العيون تراقب أيضاً عن كثب طموحات ماكرون المتفائلة في سوريا بعد لبنان.

محمد قواص

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.