تدهور العلاقات الأميركية – الروسية وأثره على تسوية إسطنبول؟

23

بقلم د. ابراهيم العرب

تتجه الأنظار مجدداً نحو إسطنبول، حيث يُفترض أن تُعقد جولة جديدة من المفاوضات المباشرة بين روسيا وأوكرانيا، وسط ظروف ميدانية مشحونة وتطورات سياسية معقدة. إلا أن موعد انعقاد هذه المباحثات لا يزال غير محسوم رسمياً، في ظل صمت كييف عن تأكيد حضورها، وتكاثر المؤشرات التي تدفع نحو التشاؤم بإمكانية تحقيق أي انفراجة حقيقية في مسار الحرب المستمرة منذ 24 فبراير/شباط 2022.

تصاعد التصريحات العدائية

على مدى الأيام الماضية، وجه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انتقادات حادة لنظيره الروسي فلاديمير بوتين، على الرغم من تأكيده المستمر على وجود علاقة جيدة تجمعه بسيد الكرملين. وقد جاءت هذه الانتقادات في أعقاب بعض من أكبر الهجمات بالطائرات بدون طيار والصواريخ على أوكرانيا منذ بدء الحرب أوائل عام 2022. حيث وصف ترامب بوتين بأنه “مجنون للغاية” بعد أن قتلت روسيا 13 شخصاً في أوكرانيا بـ367 طائرة مسيرة وصاروخاً. وقال عن بوتين: “إنه يقتل الكثير من الناس، لا أعلم ما خطبه، ما الذي حصل له بحق الجحيم؟”. كما كتب ترامب في منشور على منصة “تروث سوشيال”: “ما لا يدركه فلاديمير بوتين هو أنه لولاي، لكانت روسيا قد شهدت بالفعل الكثير من الأمور السيئة، بل السيئة للغاية. إنه يلعب بالنار!”. وفي المقابل، رد الكرملين على تصريحات ترامب بالقول إنها “ترتبط بانفعالات عاطفية زائدة لدى الجميع”. كما صرح مساعد الرئيس الروسي يوري أوشاكوف بأن ترامب “يفتقر للقدر الكافي من المعلومات حول المواجهة بين روسيا وأوكرانيا”، وأضاف أن ترامب لا يتلقى معلومات كافية عن هجمات أوكرانيا على روسيا. أما نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، دميتري مدفيديف، فقد رد على تصريحات ترامب قائلاً: “بخصوص كلمات ترامب التي قال فيها إن بوتين يلعب بالنار، وأن أموراً سيئة حقاً تحدث لروسيا. أنا أعرف أمراً سيئاً واحداً حقاً، وهو الحرب العالمية الثالثة. آمل أن يفهم ترامب ذلك!”.

وعموماً أثارت تصريحات ترامب المتناقضة تساؤلات حول مصداقية الوساطة الأميركية، خاصة مع انتقاده لكل من بوتين وزيلينسكي. فقد وجه ترامب كلمات قوية لزيلينسكي، قائلاً إنه “لا يقدم أي خدمة لبلاده من خلال الطريقة التي يتحدث بها”. وكتب عن زيلينسكي: “كل شيء يخرج من فمه يسبب مشاكل، أنا لا أحب ذلك، ومن الأفضل أن يتوقف”. كذلك، فقد عاد ترامب وقال صراحة إنه لا يعرف ما إذا كان سيدعم مشروع قانون العقوبات الجديد المقترح من قبل السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام ضد روسيا. وأوضح ترامب للصحفيين لدى وصوله إلى قاعدة أندروز: “ينبغي أن أراه، سألقي نظرة عليه”، في إشارة إلى تحفظه المبدئي على الخطوة.

في المقابل، زار وفد من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي من الحزبين الجمهوري والديمقراطي العاصمة الأوكرانية، حيث التقوا الرئيس فولوديمير زيلينسكي. وخلال الزيارة، شدد غراهام على ضرورة “تغيير قواعد اللعبة” مع موسكو، محذراً من أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “يطيل أمد المحادثات عمداً” ويستخدمها كوسيلة لكسب الوقت على الأرض. وأضاف غراهام: “اللعبة التي يلعبها بوتين على وشك أن تتغير. سيتعرض لضربة قوية من الولايات المتحدة فيما يتعلق بالعقوبات”.

حسابات عسكرية قبل المفاوضات

على الأرض، يبدو أن التصعيد المتبادل بين الطرفين لا يزال سيد الموقف. فقد شهدت الأيام الماضية موجة من الهجمات الروسية بالطائرات المسيّرة والصواريخ، استهدفت عدداً من المدن الأوكرانية، في محاولة من موسكو لقلب المعادلة الميدانية وتعزيز موقعها التفاوضي قبل المباحثات. ويعزو محللون هذا التصعيد إلى سعي الكرملين لاستغلال قدراته التصنيعية المتزايدة في إنتاج المسيّرات، بما في ذلك استخدام تصاميم إيرانية، لخلق حالة من الإرباك الشعبي داخل أوكرانيا.

في المقابل، نفّذت القوات الأوكرانية هجمات ضد مواقع عسكرية داخل روسيا، وهو ما يعد مؤشراً على رغبة كييف في إظهار قدراتها العسكرية للولايات المتحدة، فأوكرانيا تسعى لإقناع واشنطن بأنها قادرة على تنفيذ ضربات مؤلمة، رغم محدودية الدعم الغربي، وأنها لن ترضخ للمطالب الروسية التعجيزية.

ومن بين هذه المطالب، إصرار موسكو على انسحاب القوات الأوكرانية من المقاطعات الأربع التي ضمتها روسيا في عام 2022 (دونيتسك، لوغانسك، زابوريجيا، وخيرسون)، فضلاً عن مطالبها بشأن شبه جزيرة القرم. وتعتبر أوكرانيا هذه الشروط غير قابلة للتفاوض، مما يضع المباحثات المرتقبة في خانة العقم السياسي قبل أن تبدأ.

إشارات متضاربة

رغم هذا المشهد المتوتر، ظهرت بعض مؤشرات حسن النية من الجانبين، أبرزها إتمام أكبر صفقة تبادل أسرى منذ بداية الحرب، شملت إطلاق سراح ألف أسير من كل طرف. كما أبدت موسكو، في خطوة نادرة، استعداداً لمناقشة هدنة محتملة، بعد أن كانت قد رفضت مراراً مقترحات أوكرانية وغربية لوقف إطلاق النار. وسبق أن أعلن بوتين هدنتين قصيرتين في مناسبتين دينيتين في أبريل ومايو الماضيين.

لكن التصعيد الحالي لا يتعارض بالضرورة مع السعي نحو السلام، بل قد يكون محاولة كلا الطرفين لتعزيز مواقعهما التفاوضية، ففي المراحل الختامية من الحروب، يُعد التصعيد أداة لتحسين شروط التفاوض. وما نراه اليوم لا يُعبّر بالضرورة عن نية مواصلة الحرب إلى ما لا نهاية، لكنه يعكس حسابات ما قبل التهدئة.

ضغوط داخلية وخارجية

من جهة أخرى، يثير موقف إدارة ترامب المستقبلية، بشأن انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر المقبل، قلقاً متزايداً في كييف. ذلك أن “الرهان على دعم أميركي قوي غير واقعي في ظل فوز الجمهوريين، لا سيما أن ترامب لا يزال يعتقد أن بوتين يريد السلام، في حين أن روسيا برأي الأوكرانيين لا تفهم سوى لغة القوة.

وفي موسكو، تشكك إدارة بوتين في وجود نية جدية لدى أوكرانيا لوقف القتال. وتقول: “لو كانت كييف راغبة في السلام، لما استمرت في قصف الأراضي الروسية، حتى أثناء الاحتفالات في 9 مايو/ أيار”. وتعتبر أن أوكرانيا تسعى لتجميد النزاع مؤقتاً عبر المفاوضات، لكسب الوقت، كما فعلت سابقاً في محادثات مينسك التي لم تُثمر حلاً حقيقياً للنزاع في دونباس بين 2014 و2022.

وفي تصريح جديد، أكد رئيس لجنة الشؤون الدولية بمجلس الاتحاد الروسي، غريغوري كاراسين، أن موضوع “نزع سلاح أوكرانيا” سيكون مطروحاً على طاولة إسطنبول، بوصفه أحد الشروط الروسية الأساسية للتسوية. وفي السياق نفسه، شدٍد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على أن موسكو لن تتراجع عن مطالبها بشأن حياد أوكرانيا وإلغاء ما وصفه بالقوانين التمييزية بحق السكان الناطقين بالروسية.

بين الرماد واللهب

في المحصلة، يترنح أفق التسوية بين تفاؤل حذر مصدره إشارات حسن النية، وتشاؤم واقعي نابع من المعطيات السياسية والعسكرية الراهنة. وما لم تُبذل جهود دولية ضاغطة على الطرفين، وما لم تُقدَّم ضمانات جدية لتوفير شروط متوازنة للتفاوض، فإن مفاوضات إسطنبول، حتى لو انعقدت، قد تكون أقرب إلى جولة من جولات العلاقات العامة منها إلى خطوة نحو وقف إطلاق النار.

وفي انتظار ما ستسفر عنه الساعات المقبلة، يبقى الشعب الأوكراني والروسي يدفعان ثمن الحرب الأكبر في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، فيما تستمر القوى الكبرى في تدوير الزوايا، بعيداً عن إعلان صريح لإرادة السلام.

وختاماً، تبدو مفاوضات إسطنبول وكأنها تحاول شق طريقها وسط ركام المعارك ورماد الثقة المحترقة بين موسكو وكييف. فبين الرغبة الدولية في وقف إطلاق النار، وواقع الميدان الذي لا يزال مشتعلاً، يجد العالم نفسه أمام معادلة معقّدة: لا الحرب تُحسم، ولا السلام يُمنح. وقد تكون الجولة المرتقبة في تركيا أشبه بمحطة اختبار للإرادات الحقيقية، لا للأوراق المعلنة فحسب، بل للنيات الدفينة التي ستحدّد، عاجلاً أم آجلاً، ما إذا كانت هذه الحرب تتجه فعلاً نحو نهايتها… أم إلى جولة أكثر دموية.

وكما قال المفكر كارل فون كلاوزفيتز: “الحرب ليست سوى امتداد للسياسة بوسائل أخرى”. فهل تحين ساعة السياسة قبل أن تستنفد الحرب كل شيء؟

د. ابراهيم العرب

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.