من الشراكة إلى الشكوك: التحوّل الهادئ في العلاقة الروسية-الإيرانية

9

بقلم د. ابراهيم العرب

تُعدّ العِلاقة بين روسيا وإيران واحدة من أكثر العلاقات الدولية تعقيدًا في العالم المعاصر. فمنذ نهاية الحرب الباردة، تطوّرت العِلاقة بين البلدين وفق مسار مزدوج: تعاون استراتيجي مرحلي من جهة، وتنافس خفي على النفوذ الإقليمي من جهة أخرى. وبينما بدت طهران وموسكو، في كثير من المحطات، كحليفين في وجه الهيمنة الغربية، إلا أن المواقف الروسية الأخيرة، ولا سيما في ظل التصعيد الإسرائيلي الإيراني، أعادت فتح التساؤلات حول مدى صدقية هذا التحالف، وما إذا كانت روسيا قد بدأت بالفعل في التخلي التدريجي عن طهران.

تاريخيًا، لم تكن العِلاقة بين البلدين سهلة أو مستقرة. ففي القرون الماضية، كانت روسيا القيصرية خصمًا مباشرًا لبلاد فارس في عدة حروب حدودية. ومع بداية العصر الحديث، حافظت العِلاقة على حذر استراتيجي، رغم تحالفات ظرفية. وفي العقود الأخيرة، ولا سيما بعد الثورة الإسلامية عام 1979، تبنت طهران سياسة “لا شرق ولا غرب”، إلا أن العقوبات الغربية دفعت بها تدريجيًا نحو أحضان موسكو وبكين.

وقد شكّل الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022 نقطة تحوّل كبيرة، حيث وجدت موسكو نفسها معزولة دوليًا، فتقربت من طهران أكثر، وخصوصًا في ملفات التعاون العسكري والتكنولوجي والنفطي. وقد ظهرت نتائج هذا التعاون بوضوح في توريد إيران لطائرات مسيّرة استخدمتها موسكو في أوكرانيا، وكذلك في توقيع اتفاقية شراكة استراتيجية شاملة مطلع عام 2025.

إلا أن هذه الاتفاقية، رغم رمزيتها السياسية، خلت من أي التزامات عسكرية حقيقية، إذ نصت على عدم تقديم أي مساعدة للطرف المعتدي، ما يكشف عن شكوك متبادلة بين الطرفين. فلكل من موسكو وطهران رؤيته الخاصة لمستقبل المنطقة، ومصالحه التي لا تتقاطع دومًا مع مصالح الطرف الآخر.

أما ملامح التغيير فقد تبدّت في الموقف الروسي تجاه إيران خلال المواجهات المتصاعدة بين طهران وتل أبيب. فروسيا، التي لطالما أدانت الهجمات الإسرائيلية على الأراضي الإيرانية أو على قوات طهران في سوريا، اكتفت في الآونة الأخيرة بإدانة لفظية، دون أي دعم فعلي. بل على العكس، تفيد تقارير دبلوماسية بأن موسكو شجّعت إيران على الموافقة على اتفاق “صفر تخصيب”، وهو مطلب أميركي بامتياز.

ويُعزى هذا التحول إلى عدة اعتبارات استراتيجية:

  1. الانشغال بالحرب في أوكرانيا: تمثل الحرب في أوكرانيا المحور الأساسي في السياسة الخارجية الروسية اليوم. وكل ما يُمكن أن يشتت تركيز واشنطن عن الجبهة الأوروبية، يخدم مصالح موسكو. لكن دعم إيران عسكريًا، في حال نشوب حرب مفتوحة مع إسرائيل أو الولايات المتحدة، سيعيد توجيه أنظار الغرب نحو روسيا مجددًا، ويزيد من الضغط عليها، وهو ما تريد موسكو تفاديه. أضف إلى ذلك، أن موسكو باتت أكثر اكتفاءً ذاتيًا من الطائرات المسيّرة، ولم تعد بحاجة ماسة لإمدادات إيرانية.
  2. الحفاظ على التوازن مع دول الخليج وإسرائيل: تلعب موسكو منذ سنوات دور “الموازن” في الشرق الأوسط، فهي تقيم علاقات متينة مع الإمارات والسعودية، وكانت تنسّق مع إسرائيل في الأجواء السورية، وتحافظ على حوار مستمر مع طهران. لكن هذا التوازن هش وأي دعم مباشر لإيران، لا سيما في المجال العسكري، قد يُفقد روسيا مكتسباتها في الخليج ويضع علاقاتها مع إسرائيل في مهب الريح.
  3. الخَشْيَة من إيران نووية: رغم العداء المشترك للغرب، فإن طموح إيران النووي يُقلق موسكو. فدولة نووية ذات نزعة توسعية مثل إيران قد لا تكون شريكًا مضمونًا. بل قد تتحول إلى منافس مباشر في آسيا الوسطى، أو إلى عامل اضطراب في مناطق النفوذ الروسي.
  4. الرهان على صفقة مع واشنطن: تسعى موسكو – ولو بحذر – إلى فتح قنوات خلفية مع الإدارة الأميركية، خصوصًا في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي قد يُعيد النظر في العقوبات على روسيا. وفي هذا السياق، تفضل موسكو أن تقدّم نفسها كقوة عاقلة ومسؤولة في الشرق الأوسط، لا كداعم غير مشروط لحلفاء مثيرين للجدل مثل طهران.

من جانبها، تُدرك إيران أن موسكو ليست حليفًا دائمًا أو مضمونًا، وأنها، في نهاية المطاف، دولة كبرى تتحرك وفق منطق القوة والمصلحة. لذلك بدأت طهران – رغم خطابها الحاد – في تنويع خياراتها، من خلال تعزيز علاقاتها مع الصين، ومحاولة الانفتاح على بعض الدول العربية، وحتى إرسال رسائل إلى الغرب مفادها أنها مستعدة للتفاوض في ملفها النووي.

في ضوء ما سبق، يتضح أن “تخلي” روسيا عن إيران لا يعني بالضرورة قطيعة شاملة، بل هو أقرب إلى إعادة تموضع في ضوء التحولات الجيوسياسية. فروسيا لم تكن يومًا حليفًا إيديولوجيًا لإيران، بل شريكًا ظرفيًا تُحدّده الحسابات الدقيقة. وفيما تُحاول موسكو أن تحافظ على توازنها المعقّد في الشرق الأوسط، يبدو أن طهران بدأت بدورها تراجع رهاناتها على الحلفاء، في عالم يتغير بسرعة ولا مكان فيه للثوابت سوى مبدأ “المصلحة أولاً”.

د. ابراهيم العرب

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.