زياد الرحباني أسطورة لا تتكرّر
كتب عوني الكعكي:
غيّب الموت فناناً ابن فنان.. والده عاصي، عمّه منصور، وعمّه الياس، والدته أكبر فنانة في تاريخ لبنان هي السيدة فيروز. ومن سوء حظّي أن الظروف لم تسمح لي بأن أتعرف عن قرب على الراحل الكبير.
فقد ابتدع زياد خطاً جديداً في دنيا الأغنية اللبنانية والمسرح اللبناني. هذا الفنان سبق عصره. فكان يرى الأحداث قبل سنين من وقوعها، وأكبر دليل على ذلك مسرحية: فيلم أميركي طويل.
صحيح أن هذه مسرحية فنية لكنها قصة سياسية دفينة، إذ تنبّأ زياد بالأحداث التي وقعت عام 1975، وبأنّ هذه الأحداث ستكون طويلة. على الرغم من عدم اقتناع أحد بأنّ تلك الحرب ستكون طويلة، إذ بدأت عام 1975 وانتهت عام 1996.
إنّ زياد يمثّل واحدة من أبرز الشخصيات الفنية المعاصرة في لبنان والعالم العربي، جامعاً بين الإبداع الموسيقي والطرح السياسي الجريء. ولد في 1 كانون الثاني (يناير) عام 1956 في انطلياس، وتجلّت موهبته مبكراً. فقد كان والده عاصي الرحباني يشركه في تقييم الألحان وهو في السادسة من عمره، إذ أدرك موهبته حين استمع الى لحن دندنه الصغير ظناً أنه سمعه من قبل، ليجيبه زياد بأنه من وحي خياله.
نشأ زياد وهو يحمل مزيجاً من تراث الرحابنة الغني، ونزعة فطرية للتجريب والتمرّد وفرادة الصوت. ورغم شهرة والدته السيدة فيروز وسمعتها اللامعة، بدأ زياد يشق طريقه الخاص مبكراً. ففي سنواته الأولى كان يبشّر بولادة شاعر استثنائي، لولا أنه اختار التوجّه نحو الموسيقى في ما بعد. لكنه لم يهجر الشعر تماماً، إنما تحوّل الى كلمات الأغنيات السهلة والبسيطة. وعُرف بموسيقاه الحديثة وتمثيلياته السياسية الناقدة التي تصف الواقع اللبناني المؤلم، بأسلوب ساخر ودقيق. واكتسب أسلوبه عمقاً تهكمياً جعلاه حالة استثنائية في المشهد الثقافي العربي.
لقد بزغت الموهبة الموسيقية لدى زياد الرحباني باكراً في الرابعة عشرة من عمره، إذ لحّن أولى أغنياته بعنوان «ضلّك حبيني يا لوزية» سنة 1971 التي أدتها هدى شقيقة فيروز. ثم جاءت الفرصة الذهبية عام 1973، عندما عهد إليه بتلحين أغنية «سألوني الناس» لفيروز أثناء مرض والده عاصي ودخوله المستشفى. وكانت الأغنية جزءاً من مسرحية «المحطة». إذ كتب منصور الرحباني كلماتها لتعبّر عن غياب عاصي. ونجح زياد في هذه المهمة نجاحاً باهراً. فقد أثار اللحن المؤثر إعجاب الجمهور برصانة اللحن الجديد الذي أبدعه وهو لم يزل في السابعة عشرة من عمره.
كما شهد العام 1973 أوّل ظهور مسرحي لزياد رحباني، وذلك في مسرحية «المحطة»، فقدّم دور الشرطي. وتابع التجربة في مسرحية «ميس الريم» عام 1975 وقام بدور شرطي أيضاً. وشارك في حوار غنائي مع فيروز على المسرح، والأهم أنه لحّن المقدّمة الموسيقية للمسرحية، وهي مقطوعة أدهشت الجمهور آنذاك لإدخالها إيقاعات وأساليب أكثر ارتباطاً بالحياة الواقعية.
إلى جانب ذلك، أصدر زياد أعمالاً موسيقية خاصة به، نالت إعجاب شريحة واسعة من الجمهور خاصة الشباب. من أبرزها مقطوعة «أبو علي» عام 1978، وألبوم هدوء نسبي عام 1985.
وبين عامي 1976 و1977 قدّم برنامجاً إذاعياً سياسياً ساخراً بعنوان «بعدنا طيبين.. قولوا الله» بالشراكة مع جوزيف سماحة والمخرج جان شمعون. وشكّل البرنامج منصّة هجومية ضد الميليشيات اليمينية، فاتهمهم بقهر الفقراء والمتاجرة بمعاناتهم.
كتب زياد ولحّن لوالدته فيروز: كيفك انت، ولا كيف، وعودك رنان. ومن أبرز أغنيات أداها بصوته «الحالة تعبانه»، و«دلوني عالعينين السود»، وبلا ولدني، وعايشة وحدها بلاك، اسمع يا رضا، والبوسطة.
لقد كان زياد يغيب ويعود بسبب مزاجيته الكاسحة، لكن هذا لم يمنع أن يكون حاضراً دائماً ينضج فناً، وكأنه حالة فنية ابتكارية.
ومن أهم مسرحياته:
– سهرية عام 1973
– نزل السرور 1974
– بالنسبة لبكرا شو 1978
– فيلم أميركي طويل 1980
– شي فاشل 1983
– بخصوص الكرامة والشعب العنيد 1993
– لولا فسحة الأمل 1994.
ولكن رغم عدم معرفة الراحل الكبير شخصياً لكن علاقتي بالرحابنة، هذه الأسرة الفنية العريقة، قوية ووطيدة، أذكر بعضاً من تفاصيلها:
اتصل بي الأستاذ الكبير منصور هاتفياً قبل مرض أخيه المرحوم عاصي وطلب مني ترتيب لقاء لعاصي مع المطربة ميادة الحناوي بغية تحضير مسرحية. وبالفعل ذهبت الى دمشق واتفقت والسيدة ميادة كي تأتي معي الى بيروت، وبالفعل وصلنا الى بيروت واتفقت مع الأستاذ منصور على اللقاء حول مائدة غداء في مطعم «لامب هاوس» في الحمراء.
كانت جلسة جميلة جداً، قال الأستاذ عاصي للسيدة ميادة: خذي هذا الكتاب للشاعر الكبير نزار قباني، وامسكي قلم «رصاص» وضعي ملاحظاتك حول هذا الديوان، وعندما تنتهي نجتمع، لأنني سوف أحضر لك مسرحية من الديوان تليق بك. عدنا الى دمشق وكانت السيدة ميادة مسرورة جداً.
في الأسبوع الأوّل اجتمعت بالسيدة ميادة وسألتها: ماذا فعلت؟ قالت لي: لا أزال أقرأ الكتاب.. وأطلب أن أعطى أسبوعاً أو أسبوعين لأكمل قراءته.
مرّت الأيام والأستاذ عاصي يراجعني، والسيدة ميادة اعترفت لي أنها تخاف من المسرح، لذلك تريد وقتاً أطول.
وللأسف ميادة خسرت فرصة حياتها لأنها لم تغتنم فرة العمل مع العبقري الأستاذ عاصي.
والحادثة الثانية وبينما كان الكبير منصور يريد أن يقدّم مسرحية بطلها ملحم بركات، جرى خلاف بينهما. نصحت الأستاذ منصور وحاولت ولكن صعوبة العمل بين الأستاذ منصور والأستاذ ملحم جاءت من حظ غسان صليبا الذي قام بالبطولة.
الحادثة الثالثة كان لي لقاء مع السيدة فيروز في منزلها قرب الروشة مقابل مكاتب مجلة «نادين». اجتمعت بها لمدة ساعتين بناء لطلبها. وبالفعل هذه السيدة العظيمة المتواضعة كانت أيقونة لبنان، والحديث معها لا يمكن أن ينتهي… ولكن ظروفها أنها تحب «الوحدة».
الحادثة الرابعة كانت مع عمرو دياب الذي طلب مني أن يحصل على لحن من عائلة الرحباني.. وبالفعل اتصلت بالفنان الصديق غسان وأعلمته برغبة عمرو، ولكن الفوضى وعدم الإلتزام بالمواعيد حالت دون حصول عمرو دياب على لحن من الرحابنة كما طلب.
هذه هي عائلة «الرحابنة»… وها هو ذا كبير من كبارها يرحل، إنه زياد مالئ الدنيا وشاغل الناس… فوداعاً يا سليل الكبار.
aounikaaki@elshark.com
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.