لماذا المرونة الإيرانية الهابطة فجأة؟
بقلم محمد قواص
«أساس ميديا»
تُظهر إيران أعراض تراجع واضح. ليس تفصيلاً عارضاً إعادة تموضع أوروبا، من خلال دولها الثلاث داخل الاتفاق النووي، في خندق الولايات المتحدة. أطلقت فرنسا وبريطانيا وألمانيا “آلية الزناد” التي يتيحها بند في القرار الأممي 2231 الذي شرّع اتفاق فيينا النووي لعام 2015. تصبح الآلية فاعلة بعد 30 يوماً من تاريخ الإطلاق، أي في آخر أيلول الجاري، ومن دون المرور بتصويت داخل مجلس الأمن، أي من دون قدرة أي “فيتو” على اعتراض الأمر.
تعيد أوروبا النزاع النووي إلى مربع الأمم المتحدة الأوّل. وتعيد بذلك فرض العقوبات الأممية كافة على إيران، أي إلى ما كانت عليه قبل “اتفاق فيينا” الذي أبرمته مع مجموعة دول 5+1، وهي الدول الأوروبية الثلاث مع الولايات المتحدة وروسيا والصين.
يقول رئيس مجلس الشورى الإيراني محمد باقر قاليباف، إن العقوبات الأممية المُهدّدِ بها “لا تؤثّر بنا”. للرجل، الذي تعرفه بيروت، جولات وصولات من الشعبوية والمكابرة. تدهورَ اقتصاد إيران إلى درك خطير يفضح سيرته انهيار العملة الوطنية المستمر. حتى أن طهران حين اضطرت للعبور في 5 جولات من المفاوضات مع واشنطن، ضمّنت حججها، شروطا تشبه التوسّل لرفع العقوبات. يدرك قاليباف ذلك، كما يدركه المرشد علي خامنئي والرئيس مسعود بزشكيان.
الاكتفاء بتخصيب منخفض
تريد إيران العودة إلى المفاوضات. قال أمين المجلس الأعلى للأمن القومي علي لاريجاني، إن إيران جاهزة للأمر، لكن الولايات المتحدة لا تبدي جدية له. عُيّن الرجل في منصبه في 6 آب الماضي على نحو اعتُبر حدثا جللا يشي بتغير مقبل في سياسات وقرارات الدولة. كانت إيران قد طلبت ضمانات بعدم مهاجمة منشآتها النووية من جديد قبل أن تقبل بالعودة إلى التفاوض. حتى أنها طالبت بدفع تعويضات عن الخسائر التي تسببت بها حرب الأيام 12 في حزيران الماضي شرطا لعودتها للتفاوض.
تراجعت إيران عن كل ذلك. مصادر وزارة الخارجية أفادت الأسبوع الماضي عن استعداد إيران للاكتفاء بتخصيب اليورانيوم بنسبة 3.67 بالمئة، أي النسبة التي سمح بها اتفاق فيينا. وصلت نسبة التخصيب بشكل تدريجي بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق عام 2018 إلى 60 بالمئة. تحتاج صناعة قنبلة نووية إلى نسبة 90 بالمئة، وهي نسبة يمكن عمليا القفز إليها بوقت قصير. تطلّع الأوروبيون إلى قبول إيران بتخفيف تلك النسبة إلى 20 بالمئة مثلا، لكن طهران ذهبت بعيدا إلى ما تحت الـ 4 بالمئة.
تراجعت إيران. كان البرلمان الإيراني، الذي يناقش هذه الأيام مسألة الانسحاب من معاهدة الحدّ من انتشار الأسلحة النووية NPT، قد صادق على قرار بقطع علاقة البلاد مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. غير أن الدولة في طهران سرعان ما قفزت عن إرادة المشرعين وتجاهلتها، وأعادت الوصل مع الوكالة الدولية التي يترأسها الأرجنتيني رافائيل غروسي. سبق لطهران أن اتهمته بتمرير معلومات “نووية” إلى أعداء البلاد، ومع ذلك أعادت الوصل مع هذا “العميل” المزعوم ووكالته. حتى أن وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، أعلن للإيرانيين، السبت، بما يشبه البشرى، أن بلاده فاوضت الوكالة في فيينا، الجمعة، وأن الجانبين بصدد وضع “إطار لآليات تعاون جديدة”.
تتراجع إيران. وتتقصّد إظهار الأمر. لكن طهران تتمسّك بمناورات باتت مملة رتيبة. تُظهر منابر الدولة، لا سيما وزارة الخارجية في حكومة بزشكيان، ذلك الانفتاح الإيجابي والتعاون البناء والاستعداد للعودة إلى التفاوض. بالمقابل يدرس مجلس الشورى، الذي يسيطر عليه التيار المحافظ، قرارا يقضي بمغادرة الـ NPT والقطيعة مع “وكالة غروسي” الأممية المعنية بالرقابة على البرنامج النووي.
نصائح روسية – صينية؟
قد لا تعني رياح التعاطي المرن في دبلوماسية طهران جدية في الانخراط بجولات جديدة من التفاوض. كانت واشنطن قبل شنّها غارات على مفاعلات نووية إيرانية قد اشترطت حرمان إيران من تخصيب اليورانيوم، أي إسقاط النسبة التي تتنازل عنها إيران هذه الأيام وتقبل الالتزام بها (3.67 بالمئة) إلى مستوى صفري. فما بالك وأن الهجمات الأميركية أحدثت دمارا في تلك المفاعلات (فوردو ونطنز وأصفهان) أخّرت البرنامج النووي، وفق اعترافات طهران.
تتحدث أوروبا بلسان واشنطن. ولأنها داخل الاتفاق تملك ميزة تفعيل “الآلية”، وهي ميزة لا تملكها الولايات المتحدة التي باتت خارجه. لكن أوروبا تطالب بما لا تجاهر به واشنطن:
1-التفاوض بشأن برنامج إيران للصواريخ الباليستية الذي يعتبر خطرا على أوروبا نفسها.
2- التفاوض بشأن أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار، أي علاقة إيران بأذرعها الميليشياوية في المنطقة.
تبدي إيران مرونة. تودّ إقناع الدول الغربية بأنها تستحق عدم “جلدها” بعقوبات جديدة، شاملة هذه المرة، تزيد من عزلتها. بدا أن المرونة الهابطة متأثرة بنصائح مصدرها روسيا والصين. وجدت بكين وموسكو مخرجاً ينقذ الاتفاق النووي من الانهيار وينقذ إيران من مفاعيل إطلاق “آلية الزناد”، كما يدفع عن كل الأطراف احتمال الصدام العسكري. صحيح أن إيران لا تريد حربا جديدة وإن تترك لحلفائها في اليمن ولبنان التلويح باحتمالاتها، غير أن أوروبا والولايات المتحدة لا تبديان حماسة لحرب جديدة تضاف إلى تلك المندلعة في أوكرانيا.
تقترح بكين وموسكو تمرير قرار في مجلس الأمن يمدد القرار 2231 لمدة 6 أشهر، أي تمديد الاتفاق النووي وبند “آلية الزناد” لمدة 6 أشهر، ما يرفع عن إيران سيف العقوبات الفورية نهاية أيلول الجاري. قد تبدي إيران تدللا للقبول بالترياق الروسي الصيني، لكن ما يتهدده هو معارضة بطعم “الفيتو” من قبل دول مثل فرنسا أو بريطانيا مثلا. ولئن تنشغل خطوط اتصال خلفية داخل أروقة الأمم المتحدة في نيويورك لتمرير المخرج الروسي الصيني، فإن عدّة الشغل تحتاج إلى واجهات إيرانية جديدة يجتهد بزشكيان ولاريجاني وعراقجي في تقديمها بابتسامة ورضى وحبور. إنهم يشترون الوقت ولو كان لستة أشهر أخرى.
محمد قواص
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.