البُعد الدّينيّ للحرب في أوكرانيا
بقلم محمد السماك
«أساس ميديا»
في عام 988م اعتنق الأمير الروسيّ فلاديمير المسيحيّة الأرثوذكسيّة تأثّراً بتعاليم الكنيسة في القسطنطينيّة (إسطنبول) التي كانت عاصمة للإمبراطورية البيزنطيّة. وبموجب العادات التي كانت معتمدة في ذلك الوقت، كان على جميع الرعايا أن يحذوا حذوه. وهكذا توجّه الأوكرانيون جميعاً الى نهر الدانوب لتعميد أنفسهم بدلاً من التوجّه إلى نهر الأردن المقدّس في فلسطين. وبذلك تحوّلت أوكرانيا إلى المسيحيّة الأرثوذكسيّة تحت عباءة البطريركيّة في موسكو.
عام 2009 قام البطريرك الروسيّ كيريل الأوّل بأوّل زيارة له لأوكرانيا تكريساً “للأخوّة الأرثوذكسيّة” بين الروس والأوكرانيّين. يومها أعلن أنّ كييف (العاصمة) هي “قدس” الأرثوذكسيّة. ويومها أيضاً أكّد قداسة الأمير فلاديمير الأرثوذكسيّ الأوّل.
أمّا الترجمة السياسيّة لذلك، فقد تمثّلت في قوله: “لقد اعتنقنا المسيحية الأرثوذكسيّة هنا. وتعمّدنا جميعاً هنا أيضاً”.
غير أنّ هذا الموقف التودّديّ لم يرتقِ إلى مستوى ترميم العلاقات المتدهورة بين الأوكرانيّين الأرثوذكس الموالين لروسيا وبقيّة الأوكرانيّين الكاثوليك المعارضين لها، وحتّى الأرثوذكس منهم الذين يدينون بالولاء للفاتيكان، وهو ولاء ثقافي وسياسي أكثر منه ولاءً دينيّاً عقديّاً.
صراعات دامية
لم تكن هذه الظاهرة جديدة. إنّها موغلة في القدم. وتكاد تكون مصدر كلّ حالات الصعود والهبوط في العلاقات الروسيّة – الأوكرانيّة.
في عام 1569 أقيم اتّحاد (كومنولث) كاثوليكيّ – إنجيليّ بين بولندا وليتوانيا (جارتَيْ أوكرانيا). كان الاتّحاد بطبيعته ضدّ الأرثوذكسيّة الأوكرانيّة. وجد الأوكرانيّون الكاثوليك والإنجيليّون في هذا الاتّحاد متنفَساً لهم، فعملوا على الانضمام إليه. وتمّ ذلك بالفعل في القرن السابع عشر. أدّى ذلك إلى تصعيد حادّ في العلاقات بين الأرثوذكس والكاثوليك. كان الأرثوذكس في موقف أضعف، فلجأ كثيرون منهم شرقاً إلى روسيا، وهو ما يفسّر الكثافة الأرثوذكسيّة في الأقاليم الشرقية من أوكرانيا المستمرّة حتّى اليوم، والتي دخلتها القوّات الروسيّة في مطلع الحرب الجارية.
تدور مساعي التسوية السياسية لوقف الحرب الحاليّة في أوكرانيا حول تقرير مصير هذه المناطق التي تعتبرها روسيا بسكّانها الأرثوذكس مناطق روسيّة.
ليس تقاسم مناطق أوكرانيّة بين روسيا ودول الجوار الأخرى أمراً جديداً. حدث ذلك في القرن الثامن عشر عندما أُلحقت المناطق القريبة من أوكرانيا بالإمبراطورية النمساوية (الكاثوليكية). واستمرّ ذلك لمدّة 140 عاماً.
عام 1628 قام الأوكرانيون الأرثوذكس بانتفاضة ضدّ الهيمنة الكاثوليكيّة البولنديّة. دعمت روسيا القيصريّة هذه الحركة في عام 1654، وتسبّب ذلك في صراعات دامية بين دول المنطقة على النحو الذي يتجدّد الآن أيضاً.
أزمة معقّدة
عندما اتّحدت أوكرانيا بروسيا كانت تُعرف باسم “أوكرايينا” ومعناها: الطرف. هذا الطرف أصبح في العهد السوفيتيّ رأس حربة في مواجهة أوروبا، ولذلك ضمّ الرئيس السوفيتي نيكيتا خروتشوف في عام 1954 شبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا. ولكن عندما انهار الاتّحاد السوفيتي في عام 1991، اكتشف الكرملين أنّ أسطوله الحربيّ في البحر الأسود أصبح بكلّ قطعه وقواعده خارج السيادة الروسيّة وبأيدٍ غير روسيّة. ولذلك بادر الرئيس فلاديمير بوتين إلى استرجاعها بالقوّة العسكريّة وأعاد ربطها بالعمق الروسيّ، ولا يعتبر اليوم المنطقة جزءاً من السيادة الروسيّة فقط، بل رمز لها.
عام 2004 انفجرت في أوكرانيا “الثورة البرتقاليّة” التي رفعت شعارات الانضمام إلى الأسرة الأوروبيّة. كانت تلك الحركة الإنذار الأوّل الذي أيقظ الكرملين على خطر التحوّلات التي تجري في أوكرانيا بملايينها الأربعين من الكاثوليك والأرثوذكس والإنجيليّين.
هكذا يتداخل الولاء الوطنيّ بالبُعد الديني أرثوذكسيّاً وإنجيليّاً. ومن شأن هذا التداخل أن يزيد الأزمة الأوكرانيّة تعقيداً. وربّما يعكس وجود زيلينسكي اليهوديّ على رأس الدولة (الأرثوذكسيّة – الكاثوليكيّة) أبعاد هذا التعقيد.
لا يتضمّن الدستور الموحّد للاتّحاد الأوروبيّ أيّ إشارة إلى الدين.. أيّ دين. ومع ذلك ما يجري في أوكرانيا يؤكّد البُعد الديني لصراع قد يجرّ العالم كلّه إلى حرب نوويّة لا تبقي ولا تذر.
محمد السماك
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.